خير الدين بربروس
| ||||
---|---|---|---|---|
معلومات شخصية | ||||
اسم الولادة | خضر بن يعقوب | |||
الميلاد | 1478م جزيرة ميديلّي، الدولة العثمانية | |||
الوفاة | 1546م إسطنبول، الدولة العثمانية | |||
مكان الدفن | قبر خير الدين بربروسا | |||
الديانة | الإسلام[1] | |||
الأولاد | ||||
الأب | يعقوب آغا | |||
إخوة وأخوات | ||||
مناصب | ||||
بكلربك الجزائر | ||||
في المنصب 1518 – 1533 | ||||
| ||||
قبطان باشا[2] | ||||
في المنصب 1535 – 1546 | ||||
الحياة العملية | ||||
المهنة | ضابط، وسياسي[1]، وأميرال، وقرصان رسمي، وقرصان | |||
اللغات | العثمانية، والعربية[3]، والرومية، والإسبانية، والإيطالية | |||
الخدمة العسكرية | ||||
الولاء | الدولة العثمانية | |||
الفرع | البحرية العثمانية | |||
الرتبة | قبطان باشا | |||
القيادات | بكلربك (أمير) إيالة الجزائر أمير (قبطان باشا) الأسطول العثماني. | |||
المعارك والحروب | فتح الجزائر (1516م).
| |||
تعديل مصدري - تعديل |
خيرُ الدينِ بربروسَ باشا أو خير الدين باشا البحري[4] (بالتركية: Barbaros Hayreddin Paşa)، (ميلاد: 1470 في جزيرةِ ميديللي - وفاة: 5 يوليو/تموّز 1546م في إسطنبولَ)، ناظرُ (وزيرُ) البحريَّة، قائدُ القوّاتِ البحريَّةِ، والٍ على الجزائرِ. اسمُهُ الأصليُّ خضرُ بنِ يعقوبَ وعُرِفَ باسْمِ خضرِ ريّس (ريّسٌ لقبٌ لقباطينِ البحرِ)، وتَلَقَّبَ بـخيرِ الدينِ، وعُرِفَ في أوروبا بـبارباروسا أيْ ذي اللحيةِ الحمراءِ (barba: لحية، rossa: حمراء)، إذْ إنَّ الأوروپيينَ لقّبُوا أخاه الأكبرَ منهُ عُرُوجَ ريِّس باسْمِ عُرُوجَ بارباروسا بسببِ لحيتِهِ الحمراءَ، وبعدَ استشهادِهِ أطلقُوا الاسمَ ذاتَهُ على خضرٍ شقيقِهِ منْ بعدُ.
هوَ أحدُ أشهرِ قادةِ الأساطيلِ العثمانيةِ إنْ لمْ يكنْ أشهرَهُم طُرّاً، وأحدُ رموزِ الجهادِ البحريِّ. أهمُّ مساعدِيهِ ابْناه الريّسانِ «حسنُ الكبيرُ» (بيوك حسن) و«حسنُ الصغيرُ» (كوجوك حسن).[5] أسْهَمَ في غزواتٍ بحريَّةٍ عديدةٍ تحتَ إمرةِ أخيهِ عُرُوجَ بما فيها إنقاذُ عشراتِ الآلافِ منَ الموريسكيّينَ المضطهدِينَ من إسبانيا، ثمَّ تولَّى القيادةَ بنفسِهِ بعدَ استشهادِ أخيه. عقبَ استنجادِ أهلِهَا بهِمَا ضدَّ الإسبانِ أسَّسَ مع أخيهِ عُرُوجَ دولةً عاصمَتُها الجزائرِ مالبثَا أنْ ضَمَّاها ولايةً إلى الدولةِ العثمانيةِ. تولَّى منصبَ حاكمِ إيالةِ الجزائرِ (1518م) بعدَ استشهادِ أخيهِ بإلحاحٍ منْ أعيانِ مدينةِ الجزائرِ. جمعَ معَ ولايةِ الجزائرِ بأمرِ السلطانِ سليمانِ القانونيِّ قيادةَ جميعِ الأساطيلِ البحريَّةِ للدولةِ العثمانيةِ (1533م)، فانتقلَ إلى إسطنبولَ حيثُ باتَ مسؤولاً عن رسمِ الاستراتيجيةِ البحريَّةِ للدولةِ وتنفيذِها، وإليهِ يعودُ الفضلُ في إرساءِ السيادةِ العثمانيةِ المطلقةِ على البحرِ الأبيضِ المتوسِّطِ لثلثِ قرنٍ على الأقلَّ عقبَ معركةِ بروزةَ (1538م) حتى باتُوا يُشيرونَ لهُ «بالبحيرةِ التركيَّةِ» (بالتركية: Türk Gölü).
ذاعتْ شُهرتُهُ بسببِ غزواتِهِ البحريَّةِ العظيمةِ، والهزائم التي ألحقَها بالدولِ الأوربيَّةِ وكانتْ ذُرْوَتُها معركةُ بروزةَ الحاسمةُ على تحالفٍ من سبع دولٍ أوروبيَّةٍ. أهمُّ انتصاراتِهِ كانتْ على الإمبراطورِ الرومانيِّ المقدَّسِ والملكِ الإسبانيِّ كارلوسَ الخامسِ (أو شارلكانَ). وضَعَ نظامَ السياسةِ البحريَّةِ العثمانيَّةِ ونظَامَ أحواضِ بناءِ السفنِ العثمانيِّ «الترسانةُ العامرةُ». تُوفِّيَ ودُفنَ في مَدْفَنٍ خاصٍّ في منطقةِ بشكطاشَ مُجاورٍ حالياً للمتحفِ البحريِّ في إسطنبولَ.
بداياته[عدل]
أصله[عدل]
اختلفَ المؤرِّخونَ في أصْلِ عائلةِ بربروسَ على أقوالٍ، فنسبَهَا بعضُهُم إلى أرْوامِ [هامش 1] جزيرةِ ميديلِّي في بحر إيجه[ِ 1][ِ 2] وأنَّ خيرَ الدينِ وعُرُوجَ أسْلَما لاحقاً بعدما دَخَلا في خدمةِ السلطانِ محمد المتوكل الحفصيِّ في تونسَ.[6][7][8][9][ِ 3] وتشيرُ مصادرُ أخرى إلى أصْلٍٍ ألبانيٍّ.[ِ 4][10] على أنَّ أغلبَ المصادرِ تشيرُ إلى أنَّهُم منْ أصلٍ تركيٍّ[ِ 5][ِ 6][ِ 7][ِ 8][ِ 9] وهوَ ما جاءَ في مذكراتِ خيرِ الدينِ بربروسَ حيثُ يذكرُ أنَّ والدَهُ «أبو يُوسُفَ نورُ اللهِ يعقوبُ آغا التركيُّ» كانَ أحدَ السباهيَّةِ (الفرسانِ) ممَّنِ اشْتَركُوا بفتحِ ميديلي في جيشِ السلطانِ محمدِ الفاتحِ، وبعدئذٍ استَوْطَنَها وتزوَّجَ منْ إحدى بناتِها فأنجبتْ له أربعةَ أبناءٍ، وبالرَّغْمِ منْ ذكرِ خيرِ الدينِ أنَّ أمَّهُ منْ ميديلي إلاّ أنَّ هناكَ منْ قالَ إنَّها كانتْ أندلسيَّة،[11][12] وثمَّةَ أيضاً قولٌ إنَّهَا مسيحيَّةٌ منْ ميديلي وإنَّهَا كانتْ أرملةَ كاهنٍ مسيحيٍّ.[ِ 10][ِ 11][ِ 12][ِ 13][ِ 14]
اسمه[عدل]
تذكرُ بعضُ المصادرِ أنَّ اسمَ خيرِ الدينِ بربروسَ الأصليِّ هوَ «خسرف أو خسرو» ولاتذكرُ اسمَهُ الذي ذكرَهُ بنفسِهِ في مذكراتِهِ «خضر».[13] أمَّا تسميتُهُ بـ«خيرِ الدينِ» فتذكرُ بعضُ المصادرِ أنَّهُ بعدما تولَّى إنقاذَ الأندلسيّينَ اقترحَ عليهِ هؤلاءِ إلى جانبِ المغاربةِ أنْ يُغيِّرَ اسمَهُ إلى «خيرِ الدينِ».[14] الجديرُ ذكرُهُ ما كُتبَ على لائحةِ «مسجدِ خيرِ الدينِ» الحجريَّةِ التي تؤرّخُ لبنائِهِ في إسطنبولَ: «أمرَ ببناءِ هذا المسجدِ المباركِ السلطانُ المجاهدُ مولانا خيرُ الدينِ ابنِ يعقوبَ بو تركٍ بتاريخِ جُمادى الأولى منْ سنةِ ستٍّ وعشرينَ وتسعمئةٍ (926هـ) المصادفِ نيسان/أبريلَ 1520م». تذكرُ روايةٌ أخرى أنَّ السلطانَ العثمانيَّ سليمانَ القانونيَّ قالَ لهُ: «أنتَ منْ خيرةِ أبناءِ البلادِ وقدْ سمَّيْتُكَ خيرَ الدين»، على أنَّ المؤرخَ عزيز سامح التر نفى صحَةَ هذهِ الروايةِ وذكرَ أنَّه بعدَ اختلاطِهِ بالعربِ في شمالي إفريقيا غَدَوْا يُلقِّبُونَه بخيرِ الدينِ ومُذّاكَ الوقتِ عُرفَ بهذا الاسمِ، وقد استندَ في ذلكَ على اللائحةِ الحجريةِ التوثيقيةِ لمسجدِهِ السالفِ ذِكرُها بالإضافةِ إلى النقودِ المسكوكةِ قبلَ أن يلتقيَ بالسلطانِ سليمانَ وقدْ سُكَّ عليها اسمُ «خيرِ الدينِ» معَ تلقيبِهِ بـ«السلطان».[15]
أطلقَ الإفرنجُ لقبَ «بربروسَ» (بالإيطالية: Barbarossa) على الأخوينِ عُرُوجَ وخيرِ الدينِ وتعني هذهِ الكلمةُ «ذو اللحيةِ الحمراءِ» أو «الشقراءِ» أو «الصهباءِ» أو «الزعراءِ»، وتُكتبُ بعدَّةِ طرقٍ منْهَا (بربروس - بربروسا - باربروس - باربروسا) ونُقِلَتْ إلى اللغةِ العربيةِ بحرفيَّتِها، وشاعتْ حتى كادتْ تطْغَى على اسْمَيْهِما الأصلِيَّّيْن.[16]
مولده ونشأته[عدل]
تنصُّ بعضُ المصادرِ العربيةِ على مولِدِ خيرِ الدينِ سنةَ 871هـ الموافقةِ لسنةِ 1466م،[17] بينما تذكرُ بعضُ المصادرِ الأجنبيَّةِ على أنَّ ولادتَهُ كانتْ إمَّا سنةَ 1466م،[10] وإمَّا سنةَ 1478م.[ِ 15] والدُهُ «أبو يُوسُفَ نورُ اللهِ يعقوبُ آغا التركيُّ» أحدُ السباهيَّةِ (الفرسانِ) الذين استوْطَنُوا جزيرةَ ميديلي بعدَ فتحِها، وتزوجَ إحدى بناتِها فأنجبتْ لهُ أربعةَ أبناءٍ همْ: إسحأقُ، ثمَّ عُرُوجُ (بضمِّ العَيْنِ والرَّاءِ) (بالتركية: Oruç)، ثمَّ خَضِرُ (خيرُ الدينِ)، ثمَّ إلياسُ. يذكرُ المؤرِّخونَ أنَّ خيرَ الدينِ وإخوتَهُ نشؤُوا في ميديلي نشْأةً إسلاميَّةً جادَّةً، فاتَّجَهَ أحدُ إخوتِهِ لطلبِ العلمِ الدينيِّ ودراسةِ القرآنِ الكريمِ والفقهِ، وتذكرُهُ بعضُ المصادرِ أنَّهُ أخوهُ الأكبرُ «إسحاقُ»،[12] فيما تذكرُهُ مصادِرُ أخرى أنَّهُ «إلياسُ».[18] ويذكرُ خيرُ الدينِ في مذكراتِهِ أنَّ أخاهُ «إسحاقَ» كانَ مقيماً في قلعةِ ميديلي فيما كانَ هوَ وعُرُوجُ مُولَعينَ بركوبِ البحرِ، وعلى ذلكَ اقْتَنَى عُرُوجُ سفينةً للتجارةِ بينما اتَّخذَ خيرُ الدينِ مركباً ذا ثمانيةَ عشرَ مقعداً. وأخذَ الأخوةُ يعمَلُون في التجارةِ فيتنقَّلُون ما بينَ «سلانيكَ» وجزيرةِ «أغريبوزَ» يجلِبُون البضاعةَ ويبيعُونَها في ميديلي.[19]
جهاده مع إخوته[عدل]
«مادامَ الموتُ نهايةَ كلِّ حيٍّ، فلْيكنْ في سبيلِ اللهِ»
-من مذكراتِ خيرِ الدينِ-
مقتل إلياس وأسر عروج[عدل]
عمِلَ خيرُ الدينِ إلى جانبِ إخوتِهِ في مطلعِ حياتِهِ في التجارةِ يتنقَلُونَ بينَ جزرِ بحرِ إيجةَ يجلِبُونَ البضائِعَ ويبيعُونَهَا في مسقطِ رأسِهِم ميديلي، إلا أنَّ عُرُوجَ أرادَ التوسُّعَ في نشاطِهِ فتوجَّهَ إلى طرابُلْسَ الشّامِ معَ أخيهِ إلياسَ، وفي طريقِهِ صادفَ فرسانَ رودسَ[هامش 2] فاشتبكُوا معهُمَا في معركةٍ كبيرةٍ استُشْهِدَ فيها إلياسُ وأُسِرَ عُرُوجُ فنُقلَ إلى جزيرة رودسَ. عندما سمِعَ خيرُ الدينِ بالخبر سافرَ إلى مدينةِ بودرومَ مع صديقٍ يُدْعى «غريغو» لهُ علاقاتٌ مع فرسانِ رودس، ودفعَ إليه مالاً كيْ يفتديَ أخاهُ، إلا أنَّ غريغو احتالَ عليهِ وأخبرَ الرُّهبانَ بوجودِهِ في بودرومَ وبمساعيهِ لإنقاذِ عُرُوجَ، ففشلتِ المساعِي وتعنّتَ فرسانُ رودسَ إذْ علِمُوا بخبرتِهِ في البحرِ وثرائِهِ وأنَّ أخاهُ يحاولُ إطلاقَ سراحِهِ، فعمِلُوا على مواصلةِ تعذيبِهِ وتشديدِ الحراسةِ عليه. وبعدَ مدَّةٍ نُقلَ ليعملَ في التجديفِ على سفينةٍ متَّجِهَةٍ إلى مدينةِ أنطاليا، وكانَ واليها الأميرُ شاهزادَه قورقودَ ابنِ السلطانِ العثمانيِّ بايزيدَ الثاني اعتادَ أنْ يفديَ (يُعتقَ) في كلِّ سنةٍ مئةَ أسيرِ تركيٍّ، وصادفَ أنْ كانَ عُرُوجُ جدَّافاً على السفينةِ التي تُقّلُ الأسرى لكنْ نظراً لقيمتِهِ لمْ يُدْرِجْهُ فرسانُ رودسَ في قائمةِ المئةِ المفرجِ عنهم، لكنَّهُ تمكَّنَ منْ فكِّ قيودِهِ بنفسِهِ والسباحةِ إلى الساحلِ حيثُ مكثَ في قريةٍ تركيَّةٍ عشرةَ أيامٍ، ثمَّ وفي طريقِهِ إلى ميديلي وصلَ أنطاليا فلقِيَ فيها «علي ريِّسَ» قبطاناً يملكُ سفينةً يتاجرُ بها بينَ أنطاليا والإسكندريةِ وقدْ بلغَتْهُ شهرةُ عُرُوجَ فرحَّبَ بأنْ يعملَ معَهُ ومالبثَ عُرُوجُ أنْ غدا قبطاناً ثانياً للسفينةِ. ومعَ وصولِ عُرُوجَ إلى الإسكندريةِ أرسلَ رسالةً لعائلتِهِ يُخْبرًها بنجاتِه.[20] يُحتَمَلُ أنْ يكونَ خلاصُ عُرُوجَ منَ الأسرِ سنةَ 911هـ الموافقةَ لسنةِ 1506م،[21] ودامَ غيابُهُ نحوَ ثلاثِ سنواتٍ ما بينَ أسرِهِ في رودسَ وعملِهِ في التجديفِ.
علاقة عروج بقانصوه الغوري والأمير قورقود[عدل]
استأنَفَ عُرُوجُ بعدَ نيلِ حريَّتِهِ في العملِ في البحرِ واتَّجهَ إلى الإسكندريةِ فاستقرَّ فيها مدَّةً، وثَمَّةَ استدْعاهُ السلطانُ المملوكيُّ قانصوه الغوريّ (حَكَمَ 1500-1516م)، وكلَّفَهُ بقيادةِ أسطولِهِ، فوافقَ عُرُوجُ، وسافرَ إلى ميناءِ بيَّاسَ على خليجِ إسكندرونةِ لجلبِ الأخشابِ المطلوبةِ لصناعةِ السفنِ على أنْ يتَّجِهَ بعدَها إلى مصرَ إلاَّ أنَّ فرسانَ رودسَ أغارُوا على سفنِهِ وأحرقُوها، فسحبَ عُرُوجُ جندَهُ إلى البرِّ وصرفَهُم إلى بلدانِهِم، وتوجَهَ هوَ إلى مدينةِ أنطاليا وثمَّةَ أوصى بصناعةِ سفينةٍ أغارَ بها على سواحلِ جزيرةِ رودسَ وقفّلَ راجعاً إلى أنطاليا. بعدَها نَجَا منْ هجومٍ آخرَ قامَ بهِ فرسانُ رودسَ استوْلَوا فيهِ على سفينتِهِ الخاصَّةِ وأحرقُوا سفنَ بحَّارَتِهِ. توجَّهَ عُرُوجُ لاحقاً إلى مدينةِ مانيسا والتقى ثمّةَ بالأميرِ العثمانيِّ شاهزاده قورقودَ ابنِ السلطانِ بايزيدَ الثاني الذي أَهْداهُ سفينتَيْنِ حربيَّتَيْنِ ووَصَّاهُ أنْ يُبْحِرُ نحوَ غربِ البحرِ المتوسِّطِ لمساعدةِ المسلمينَ الذين يُضطهدُونَ ويُقتَلُونَ منْ قبلِ الإسبانِ في الأندلسِ، فخرجَ وبعدَ عدَّةِ معاركَ بحريّةٍ والاستيلاءِ على سفنٍ وغنائمَ عادَ إلى ميديلي فكانَ في استقبالِهِ في الميناءِ أخَواهُ إسحاقُ وخيرُ الدين. وفي الأثناءِ وصلَ خبرُ اعتلاءِ سليمِ الأوَّلِ (حَكَمَ 12-1520م) عرشَ الدولةِ العثمانيةِ ومعاداتِهِ لأخيهِ قورقودَ الذي كانَ مقرَّبَاً منْ البحّارةِ العثمانيّينَ وبخاصَّةٍ عُرُوجَ فقدْ كانتْ سفينتاهُ هديَّةً منهُ، فخرجَ عُرُوجُ إثرَ ذلكَ إلى الإسكندريةِ تقريباً سنةَ 918هـ الموافقةِ لسنةِ 1513م.[22][23]
التوجه إلى تونس[عدل]
سنةَ 918هـ الموافقةُ لسنةِ 1513م توجَّهَ عُرُوجُ منْ ميديلي إلى الإسكندريةِ وفي طريقِهِ استوْلَى في سواحل جزيرةِ كربةَ على سبعِ سفنٍ، ولمّا كانَ يشعرُ بالإحراجِ قِبَلَ السلطانِ قانصوه الغوريِّ -لفقدانِهِ السفنَ التي منحَهُ إيَّاهّا- قامَ بإهداءِ جزءٍ منَ الغنائمِ التي غَنِمَها له. وربيعَ سنةِ 1513م استأذَنَ عُرُوجُ منْ قانصوه الغوريّ بالخروجِ للغزوِ فأذِنَ لهُ، فتوجَّهَ إلى سواحلِ قبرصَ، ومنْ ثَمَّ اتَّجَهَ غرباً حتى جزيرةِ جربةَ جنوبيَّ تونسَ.[24] بعدَ اعتلاءِ سليمٍ الأوَّلِ عرشَ الدولةِ العثمانيةِ أصدرَ أمراً بمنعِ الإبحارِ في سواحلِ الأناضولِ وموانِئِهَا، وللتأكُّدِ منْ تنفيذِ أوامرِهِ عيّنَ قبطاناً يُدْعَى «إسكندر باشا» كانَ يُضايِقُ البحَّارةَ بدَعْوى أنَّهُم منْ رجالِ الأميرِ قورقودَ -المُقَرَّبِ من البحّارةِ العثمانيّينَ- ولمْ يكُ يَسمحُ لهم بركوبِ البحرِ، وعندما بلغتْ أخبارُهُ خيرَ الدينِ قرَّرَ مغادرةَ ميديلي فشحَنَ سفنَهِ بالقمحِ ومضى إلى طرابُلسَ الشّامِ حيثُ استبْدَلَ بالقمحِ شعيراً، ثمَّ ذهبَ إلى بروزةَ فإلى جزيرةِ «أياموري» المقابلةِ لبروزةَ حيثُ اشترى هناكَ سفينةً أعجبتْهُ، ومنْ ثَمَّ اتَّجَهَ إلى أخيهِ عُرُوجَ في جزيرةِ جربةَ بتونسَ.[25]
في حلق الوادي[عدل]
بينما كانَ الإخوةُ بربروسَ في جزيرةِ جربةَ اتفَّقُوا على التوجُّهِ إلى مدينةِ تونس عاصمةِ الدولةِ الحفصيَّةِ (1228م-1574م) بنيةِ الجهادِ البحريِّ الإسلاميّ. يذكرُ خيرُ الدينِ في مذكِّراتِهِ أنَّهُم قرَّرُوا عندما فكَّرُوا بالسفرِ: «مادامَ الموتُ نهايةَ كلِّ حيٍّ فلْيَكُنْ في سبيلِ اللهِ». دخلَ الأخوَانِ عُرُوجُ وخيرُ الدينِ معَ «يحيى ريِّس» على سلطانِ تونسَ الحفصيِّ أبي عبدِ اللهِ محمدٍ المتوكِّلِ وخاطَبُوهُ: «نريدُ أنْ تَتَفَضَّلَ عليْنا بمكانٍ نحمي فيه سفنَنَا بيْنَمَا نقومُ بالجهادِ في سبيلِ اللهِ وسوفَ نبيعُ غنائِمَنَا في أسواقِ تونسَ فيستفيدُ المسلمونَ منْ ذلكَ وتنتعشُ التجارةُ، كما ندفعُ لخزينةِ الدولةِ ثُمُنَ ما نحوزُ منَ الغنائِمِ»، فوافقَ السلطانَ ورحَّبَ بهِمُ، وأذِنَ لهُمُ ومنْ معهُمْ منَ البحَّارةِ الأتراكِ بالرُسُّوِ في ميناءِ حلقِ الوادي (بالفرنسية: La Goulette) واستخدامِهِ فعمِلُوا على تقويةِ مركزِهِم وحصّنُوه جيّداً، وأدركُوا أهميَّةَ تونسَ واستراتيجَّيَتِها وأهميَّةِ موقِعِها، وكانَ ميناءُ حلقِ الوادي متحكِّماً في خليجِ تونسَ، وبذلكَ صارَ لهُمُ موطئُ قدمِ على الحوضِ الغربيِّ للبحرِ الأبيضِِ المتوسطِِ حيثُ الدولُ الأوروپيَّةُ الرئيسيَّةِ والغنيَّةِ وقتذاك.
قضى البحَّارةُ شتاءَ ذلكَ العامِ (1513م-1514م) هناكَ وعندَ الربيعِ بدؤُوا بغزواتِهِمُ البحريَّةِ فبلغُوا جزيرةَ سِرْدانيا وثمَّةَ استوْلَوا على سفينةِ أحدِ القراصنةِ كانَ فيها مئةٌ وخمسونَ أسيراً. واستوْلَوا على أخرى محمَّلَةٍ بالقمحِ تركَهَا قراصِنَتُها ولاذُوا بالفرارِ على قوارِبِهِم، وفي الصَّباحِ التّالي استوْلَوا على سفينَتَيْنِ أخريَتَيْنِ إحداهُما مشحونَةٌ بالعسلِ والزيتونِ والجُبْنِ، والأخْرَى جنويَّةٌ محمَّلَةٌ بالحديدِ قبلَ أنْ يعودُوا إلى حلقِ الوادي.[26] وتذكرُ بعضُ المراجعِ أنَّ الأخوةَ بربروسَ استوْلَوا على سفينَتَيْنِ تابعَتَيْنِ للبابا يوليوسَ الثّاني (حبرِيَّتُهُ 1503م-1513م) بينَ جزيرتَيْ قورسيقا وإلبَا وكانَتَا عملاقَتَيْنِ مُقارَنَةً بسفنِ الإخوةِ بربروسَ (ربَّما تكونُ هذهِ الغزوةُ هيَ إِحْدَى الغزواتِ السابقةِ)، وبعدَ الحادثةِ ذاعَ صيتُ عُرُوجَ في أرجاءِ أوروپا.[27][28]
عوامل دخول الأخوة بربروس إلى الجزائر[عدل]
ثمَّةَ عواملُ عدةٌ داخليةٌ وخارجيةٌ أوجبت على الأخوينِ عُرُوجَ وخيرِ الدينِ فتحَ جيجلَ، ثمَّ الجزائرَِ بالكاملِ، أمَّا العواملُ الداخليةُ فضعفُ وانحلالُ الدولةِ الحفصيةِ (1229م-1574م) التي كانت تحكمُ تونسَ والشطرَ الشرقِيَ منَ الجزائرِ، وفي الشطرِ الغربِيِّ -وكانت تحكمُهُ الدولةُ الزيَّانيَّةُ (1235م-1554م)- كانَ انتشارُ الظلمِ واللصوصيَّةِ والفقرِ والأوبئةِ ممَّا أرغَمَ الناسَ على هجرِ منازلِهِم وبلداتِهِم. وأمَّا العواملُ الخارجيَّةُ فأهمُّهَا سقوطُ الأندلسِ، أو بالأحْرَى ما تبقَّى من الأندلسِ؛ دولةُ بني الأحمرِ وحاضِرَتُها غرناطةُ سنةَ 1492م، وقيامُ الدولِ الأوروپيةِ باحتلالِ الكثير من المدنِ على الساحلِ الجنوبيَّ للبحرِ المتوسِّطِ، فكانَ الجنويُّونَ في جيجلَ منذُ سنةِ 1240م، والبرتغاليُّونَ في سَبْتَةٍ (شماليَّ المغربِ حالياً) منذُ سنةِ 1415م، والإسبانُ في مليليةَ (أيضاً شماليَّ المغربِ حالياً) منذُ سنةِ 1497م. وبعدَ سقوطِ غرناطةَ وبتحريضٍ منَ البابويةِ -احترازاً من عودةِ المسلمينَ للأندلسِ وهُمْ الذّينَ أقامُوا فيها أكثرَ من سبعةِ قرونٍ- وخلالَ سنواتٍ خمسٍ (من 910هـ/1505م إلى 915هـ/1510م) احتلَّ الإسبانُ في الجزائرِ وحدها «المَرْسَى الكبيرَ»، و«وَهْرانَ»، و«أَرْزيُو»، و«مِسْتِغَانِمَ»، و«شِرشالَ»، ومدينةَ «الجزائرِ»، و«بُجَّايَةَ»، و«عُنَّابَةَ»، [وأتبعوها بطرابلسَ الغربِ (في ليبيا حالياً) سنةَ 1511م]، وجعلُوا يضغطُونَ على كلٍّ منَ السلطاتِ المحليَّةِ والأهالي في البحرِ وفي الشؤونِ الداخليَّةِ لتلكَ النواحي على السواءِ.[29] وبذا غّدا الإسبانُ في خمسِ سنينَ القوّةَ الإقليميَّةَ المطلقةَ غربِِيَّ البحرِ الأبيضِ المتوسطِ وكانت سياسَتُهُم الضغطَ باستمرارٍ على سواحلِ شمالِيِّ إفريقيا لرصْدِ أيِّ تطوراتٍ سياسيةٍ فيها تحسباً من عودةِ المسلمينَ إلى الأندلسِ فيما كانت جاليةٌ مسلمةٌ كبيرةٌ ماتزالُ مقيمةً فيها.
وأمامَ جبروتِ شارلكانَ الإمبراطورِ الرومانيِّ المقدسِ،[هامش 3] وبالنظر لضعفِ الدولِ الإسلاميةِ في شماليِّ إفريقيا وتقاعسِ ولاةِ أمرِهَا فقدْ كانَ الأخوةُ بربروسَ -على شُحِّ إمكاناتِهِم- القوّةَ الوحيدةَ التي حملتْ عبءَ مواجهةِ الإسبانِ[هامش 4] والقوى الصليبيَّةِ الأخرى غربَ البحرِ المتوسِّطِ كالدويلاتِ الإيطاليَّةِ وفرسانِ مالطةَ (1530-1798م)، وقدْ قامُوا بواجبِهِم بكلِّ شجاعةٍ واحْتمالِ مسؤوليَّةٍ، لكنْ لمَّا كانُوا لا قِبَلَ لهُم بمجابهةِ دولةٍ بحجمِ إسبانيا فقدْ مارَسُوا أسلوبَ الإغارةِ على السواحلِ الأوروپية المتوسطية والسفنِ تجاريةً كانتْ أم حربيةً -ومنْ هُنا دعاهُم الأوروپيونَ قراصِنَةً- لكنَّ ذلكَ لمْ يكُ سِوى ردِّ فعْلٍ لمَا اعتادتْ الدولُ الأوروپيَّةُ عملَهُ على السواحلِ الإسلاميَّةِ، وحتّى الأخوينِ بربروسَ ماكانَ التفاتُهُما نحوَ الغزوِ إلا ردَّ فعْلٍ على مقتلِ أخيهِمَا وأسْرِ أحدِهِمَا على يدِ أخويَّةِ فرسانِ رودسَ.
مناوشة بجاية الأولى[عدل]
حسبَ مذكراتِ خيرِ الدينِ فإنَّ الأخوةَ بربروسَ أمضَوْا شتاءَ العامِ (918هـ الموافقِ ل1513م تقريباً) في تونسَ وعندَ حلولِ ربيعِ العامِ التالي 919هـ الموافقِ ل1514م خرجُوا للغزوِ وبعدَ ثلاثةَ عشرَ يوماً وصلُوا ناپولي فصادفُوا مركباً كبيراً متَّجِهاً إلى إسبانيا فيهِ ما بينَ ثلاثمئةِ إلى أربعمئةِ مقاتلٍ فهاجمُوه وجرتْ معركةٌ كبيرةٌ استوْلَوا عليهِ إِِثْرَها، إلاَّ أنَّهُم تكبَّدُوا خسائرَ كبيرةً، مئةً وخمسينَ شهيداً وستةً وثمانينَ جريحاً. كانت السفينةُ تُقلُّ خمسمئةٍ وخمسةً وعشرينَ شخصاً أسرُوا منهم مئةً وثلاثةً وثمانينَ وقُتِلَ الآخرون وكانَ منْ بينِ القتلى والي إحدى المقاطعاتِ الإسبانيِّةِ الكبيرة. بعدَ ذاكَ استولَوْا على سفينةٍ أخرى وعادُوا بها إلى تونسَ حيثُ تمَّتْ معالجةُ عُرُوجَ -وكانَ مشهوراً بشجاعتِهِ- من جروحِهِ في إحدى المعارك.[30]
شَهرتِ المعركةُ الأخيرةُ اسمَ الأخوةِ بربروسَ وبالأخصِّ عُرُوجَ كثيراً، فأعدَّ الإسبانُ عشرَ سفنٍ ضخمةٍ منْ نوعِ قادرغة (بالإنجليزية: Galley) (قادس) بهدفِ أسرِهِم، وكانُوا خرجُوا متَّجِهِينَ إلى جنوا لكنْ بسببِ مخالفةِ الريحِ توجَّهُوا إلى السواحلِ الجزائريَّةِ ورسُوا قُبالةَ «قلعةِ بُجّايَةَ»، أمَّا السفنُ الإسبانيَّةُ فعندما لمْ تعثرْ عليهِم في جنوا توجَّهَتْ إلى بُجّايَةَ وكانتْ بيدِ الإسبانِ يومئذٍ. كانَ للاشتباكِ مع الإسبانِ على الساحلِ خطورَتُهُ الكبيرةُ لوقوعِهِم تحتَ مرمى المدفعيّةِ الساحليَّةِ، ولأنَّ مدافعَ السفنِ الإسبانيَّةِ الضخمةِ أثقلُ وأبعدُ مدىً، لذا انطلقَ الأخوةُ بمراكبِهِم مبتعدينَ، انطلتْ الحيلةُ على الإسبانِ فقامُوا بملاحقتِهِم ظنَّاً منهُم أنَّهم هربُوا، وعلى مسافةٍ كافيةٍ من البرِّ أمرَ عُرُوجُ بالانعطافِ نحوَ السفنِ الإسبانيَّةِ التي فُوجِئَتْ بالمناورةِ، وبهجومٍ خاطفٍ تمكَّنُوا منَ الاستيلاءِ على سفينةِ القيادةِ وثلاثِ سفنٍ أُخَرَ فيما لاذتِ بقيَّةُ السفنِ بالفرارِ نحوَ بُجّايَةَ محتميةً بقلعتِها.[31]
اختلفَ رأْيَا عُرُوجَ وخيرِ الدينِ. كانَ الأوَّلُ يريدُ مهاجمةَ المَرْسى والقلعةِ ليستوليَ على السفنِ بينما أرادَ خيرُ الدينِ الرجوعَ إلى تونسَ والاكتفاءِ بأربعةِ السفنِ التي غنِمُوا. لمْ يأخذْ عُرُوجُ برأيِ أخيهِ وأعطى أوامرَهُ بالهجومِ على قلعةِ بُجّايَةَ التي كانتْ تعُجُّ بالجندِ فضلاً عمَّنِ التحقَ بهِمْ منَ بحّارةِ السفنِ الستِّ. شرعَ عُرُوجُ بمهاجمةِ القلعةِ التي كانتْ تطلقُ وابلاً منْ قذائفِ المدفعيَّةِ، وخلالَ ذلكَ فقَدَ البحّارةُ الأتراكُ ستينَ منْ رفاقِهِم وأصيبَ عددٌ كبيرٌ، وعندما كانُوا على وشَكِ الاستيلاءِ على القلعةِ أصيبَ عُرُوجُ بقذيفةٍ في ذراعِهِ اليسرى، وإذْ رأى الإسبانُ ذلكَ فتحُوا أبوابَ القلعةِ وشرعُوا بالهجومِ، أمّا خيرُ الدينِ فبعدما رأى إصابةَ أخيهِ استثارَتْهُ الحميَّةُ وقامَ بهجومٍ ضارٍ مع ثلاثمئةٍ أو أربعمئةٍ من رجالِهِ، وأوغَلُوا حتى وصلُوا أبوابَ القلعةِ وقتلُوا في هجومِهِم ثلاثمئةِ إسبانيٍّ وأسرُوا مئةً وخمسين. ونظراً لإصابةِ عُرُوجَ البليغةِ وكانَ فقَدَ وعيَهُ اضطر البحّارةُ للانسحابِ، والعودةِ إلى تونسَ بأربعَ عشرةَ سفينةً. عَقِبَ رجوعِهِم قامَ الجرّاحونَ بتضميدِ جراحِ عُرُوجَ إلاَّ أنَّ خطورتَهَا كانتْ تتزايدُ ولذا أجمعُوا على بترِ ذراعِه.[32]
تذكرُ بعضُ المراجعِ العربيةِ هذهِ المناوشةَ برواياتٍ مختلفةٍ عمّا ذكرَهُ خيرُ الدين. تقولُ إحداها إنَّ أحدَ أعيانِ بُجّايةَ طلبَ منَ الإخوةِ بربروسَ تحريرَ بُجّايَةَ منَ السيطرةِ الإسبانيَّةِ، فلبَّى عُرُوجُ وخرجَ إليها على أربعةِ سفنٍ وحوالَيْ مئةِ مقاتلٍ، ووجدَ ثلاثةَ آلافٍ من أهلِ البلادِ ينتظرونَهُ شرقَ المدينةِ، فباشَرُوا الهجومَ وحاصرُوا المدينةَ نحوَ ثمانيةِ أيامٍٍ، وفي اليومِ التاسعِ احتلُّوا الميناءَ، لكنَّ قذيفةً أصابتْ يدَ عُرُوجَ اليُسْرَى فجرحَتْها جُرْحاً بليغاً، وكانَ مشهوراً بشجاعتِهِ، فأسرعَ رفاقُهُ بنقلِهِ إلى السفينةِ ثمَّ إلى تونسَ، وبالرَّغْمِ منْ العلاجِ إلاَّ أنَّ الأطباءَ قرَّرُوا بترَ ذراعِه.[33] وفي روايةٍ أخرى أنَّ الملكَ «أبا بكرٍ الحفصيَّ» والي قُسَنْطينَةَ أرسلَ لهما العلماءَ والأعيانَ منْ بُجّايَةَ يستصرخُونَ لإنقاذِها منْ الاحتلالِ الإسبانيِّ، فلبّيَا النداءَ بعدَ المشاورةِ مع رجالهِما، وأعلمَا جماعاتِ المجاهدينَ حوالَيْ بُجّايَةَ ورجالَ القبائلِ بقدومِهِما، واتَّفقُوا جميعاً على ساعةٍ معينةٍ يجتمعُون بها عندَ أسوارِ بُجّايَةَ. توجَّهَ عُرُوجُ بقيادةِ ثلاثةِ آلافِ مقاتلٍ إلى بُجّايَةَ، وعندَ وصولِهِ إليها وجدَ خمسَ عشرةَ سفينةً إسبانيَّةً قدِمَتْ لتوِّها منْ إسبانيا راسيةً بمَرْسى بُجّايَةَ فاعترضتْ أسطولَ الأخوةِ بربروسَ، ولم يكُ باستطاعتِهِم مهاجمتُها لتفوُّقِها في العددِ والعدَّةِ، فقامَ الأتراكُ بمناورةٍ إذْ تظاهرُوا بالانسحابِ فراراً، فقامَتِ العمارةُ الإسبانيَّةُ بتتبُّعِهِم إلى أنْ أصبحَتْ تحتَ مرْمَى مدافعِ البحّارةِ المسلمينَ في عَرْضِ البحرِ، فأجرَوْا مناورةَ التفافٍ بحريةً استطاعُوا بها الاستيلاءَ على إحدى السفنِ، وأغرقُوا أخرى، وهربتْ بقيَّةُ السفنِ على كثرتِهَا، وهنا اختلفَ عُرُوجُ وخيرُ الدينِ في الرأيِ فقدْ كانَ الأخيرُ يرى وجوبَ حصارِ المدينةِ بحراً وقطْعَ كلِّ مددٍ عنهَا إلى أنْ تستسلمَ، بينما ارتأى عُرُوجُ النزولَ إلى البرِّ ومهاجمةِ المدينةِ منْ جهةِ البحرِ فيما يهاجِمُهَا مجاهدو أهلِ البلادِ منَ الجهةِ المقابلةِ، ولمَّا كانَ عُرُوجُ القائدَ فقدْ أُخِذَ برأيِهِ. فنزلَ عُرُوجُ بصحبةِ خمسينَ منْ رجالِهِ الأتراكِ يستطلعُون أسوارَ المدينةِ وحصونِهَا، وكانَ الإسبانُ في الوقتِ نفسِهِ يترصَّدُونَهُم حتّى أضْحَوا ضِمْنَ مَرْمى نيرانِهِم، وعندّئذٍ انهالَتْ عليهِمُ طلقاتُهُم، فأصابتْ ذراعَ عُرُوجَ رصاصةُ بندقيّةٍ فكسرتْها، واضْطُرَّ للعودةِ إلى تونسَ للعلاج، ولمْ يَجدِ الأطباءُ منْ بُدٍّ سِوَى بتْرِها.[34][35]
إنقاذ الأندلسيين[عدل]
شتاءَ ذلكَ العامِ استعادَ عُرُوجُ عافيتَه، وبحلولِ ربيعِ سنةِ 920هـ/1515م[36] تقريباً خرجَ البحّارةُ بقيادةِ الأخوَيْنِ بربروسَ إلى سواحلِ الأندلسِ في ثمانيةِ مراكبَ، ويقولُ خيرُ الدينِ في مذكراتِهِ يصفُ وضعَ المسلمينَ في الأندلسِ بعدَ سقوطِهَا: «كانتِ المدينةُ الإسلاميةُ غرناطةُ قدْ سقطتْ قريباً بيدِ الإسبانِ. كانَ الإسبانُ يقومُونَ بمظالمَ كبيرةٍ في حقِّ المسلمينَ الذينَ كانَ الكثيرُ منهُم يعبدُون اللهَ في مساجدَ سرِّيَةٍ قامُوا ببنائِها تحتَ الأرض. لقدْ دَمَّرَ الإسبانُ وأحرقُوا جميعَ المساجدِ وصارُوا كلَّمَا عثرُوا على مسلمٍ صائمٍ أو قائمٍ إلا وعرّضُوه وأولادَه للعذابِ أو الإحراقِ». أثناءَ ذلكَ قامَ الأخوَانِ بحملِ عددٍ كبيرٍ من المسلمينَ الأندلسيِّينَ في السفنِ ونقْلِهِم إلى الجزائرِ وتونسَ. وعندما كانُوا نواحيَ ساحلِ المُرَيَّةِ لاحتْ لهُم سبعُ سفنٍ استطاعُوا الاستيلاءَ على إحداها وكانتْ هولنديَّةً محمّلةً ببضائعَ من الهندِ ولمْ يستطيعُوا اللحاقَ بالبقيّةِ لمُخالَفَةِ الريح. ثمَّ أوغلُوا إلى جزيرةِ مَنُورَقَةَ بعدَ مضيِّ خمسينَ أو ستينَ يوماً على خروجِهِم من تونسَ فصادَفُوا مئتيْ مقاتلٍ مدجَّجِينَ بالسلاحِ قتلُوا منهُم سبعينَ أو ثمانينَ واستَوْلَوا على خمسةِ أو ستَّةِ قطعانٍ من الأغنام. كانَ هؤلاءِ الجندِ خرجُوا لملاقاتِهِم منَ البرِّ فيما خرجتْ عشرُ سفنٍ إسبانيَّةٍ لمهاجمتِهِم من البحرِ عندما عَلٍمَ الإسبانُ أنَّ الأخوَيْنِ بربروسَ رسيَا في مَنُورَقَةَ، فلمَّا علمَ خيرُ الدينِ بذلكَ فرَّقَ الأسرى على السفنِ وانطلقَ إلى جنوا، فاستوْلَى على أربعةِ مراكبَ في طريقِهِ، وأخيراً أغارُوا على جزيرةِ قورسيقا قبلَ أنْ يتوجَّهُوا إلى ميديلي. كانَ منْ أثَرِ هذهِ الحملاتِ أنْ شاعَ اسمُ بربروسَ في أنحاءِ أوروپا وخاصةً أوروپا المتوسطيِّةِ، وأصبحَ أسطورةً في نظرِ الأوروپيين.[37][38]
بين ميديلي وتونس[عدل]
توجَّهَ الأخوةُ بربروسَ إلى مسقطِ رأسِهِم جزيرةُ ميديلي بغيةَ قضاءِ شتاءِ العامِ بينَ أهليهِم وقرابتِهِم، وثمَّةَ -كما ذكرَ خيرُ الدينِ في مذكِّراتِهِ- قالَ عُرُوجُ: « لقدْ رأيتُ في الليلةِ الماضيةِ رؤيا صالحة. رأيتُ ذلكَ الشيخِ ذا اللحيةِ البيضاءِ الذي بَشّرَنِي بالنجاةِ عندما كنتُ أسيراً في رودسَ يقولُ لِي: ياعُرُوجَ توجَّهْ إلى الغربِ، إنَّ اللَّهَ قدْ كتبَ لكَ هناكَ كثيراً من الغزوِ والعِزِّ والشرفِ..».
أنفقَ الأخوةُ بربروسَ أموالَهُم التي غَنِمُوها على المحتاجينَ وفي تجهيزِ سفنِهِم. وعندَ الشتاءِ أذِنَ خيرُ الدينِ للبحَّارةِ بقضاءِ الفصلِ بينَ أهليهِم ممَّن كانُوا يُقيمُونَ قريباً في الأناضولِ والرّومِلّي. وعندَ اقترابِ الربيعِ بدأتْ أفواجُ الشبابِ الذينَ بلغتْهُم شهرةُ الأخوَيْنِ تتوافدً إلى الجزيرةِ للعملِ تحتَ إمرتِهِما كبحّارةٍ، فانطلقُوا من ميديلي في عشرةٍ من المراكبِ وفي طريقِهِم استوْلَوا على خمسَ عشرةَ أو ستَّ عشرةَ قطعةً بحريةً حازُوا الجيِّدَ منها وأغرقُوا التالفَ، كانتْ خمسُ سفنٍ ممَّا غنِمُوا محمَّلةً بزيتِ الزيتونِ وواحدةٌ محملةٌ بالعاجِ، وأمَّا البقيّةُ فكانتْ محمَّلَةً بأموالٍ وبضائِعَ مختلفةٍ، وبلغَ مجموعُ الأسرى أكثرَ منْ أربعمئةِ امرأةٍ وعدداً كبيراً منَ الرِّجال. وفي اليومِ التاسعِ والعشرينَ على مغادرَتِهِم دخلُوا ميناءَ حلقِ الوادي في تونسَ، فقامُوا ببيعِ غنائمِهِم ثمَّةَ، وأعطَوْا السلطانَ حصَّتَهُ وقدْ رحَّبَ بهِم واستقبلَهُم في قصرِهِ، وأهْدَى الأخويْنِ عُرُوجَ وخيرَ الدينِ خيولاً فارهةً مجهَّزَةً وكافَأ كلاًّ منهُمَا بحُلَّةٍ من الفراءِ وأكرَمَ من معهُمَا منَ البحّارةِ.[39]
الاتصال بالعثمانيِين وإنقاذ الأندلسيِين[عدل]
أمْضى الأخوةُ بربروسَ الشتاءَ في تونسَ وبحلولِ الربيعِ خرجُوا في اثْنَيْ عشرَ مركباً فأغارُوا على قلعةٍ في صقلَّيةَ وأسَرُوا ما يقربُ من ثلاثمئةِ أسيرٍ قامُوا بتوزيعِهِم على المراكبِ كمجدِّفِينَ، كما استولى أحدُ البحّارةِ واسمُهُ «دلي محمد ريس» على سفينةٍ تجاريةٍ كانَتْ محمَّلَةً بالسُّكَرِ. وفي اليومِ التالي استَوْلَوا على أربعةِ مراكبَ اثنانِ منهما محمَّلَتَانِ بالجوخِ، وإحداهُمَا مشحونةٌ بأعمدةٍ شراعيةٍ، وأمّا الرابعةُ فكانَتْ محمَّلةً بالبارود، ورَجَعُوا إلى تونسَ بعدَ مضيِّ ثلاثةٍ وثلاثينَ يوماً.[40]
كانَ خروجُ الأخوةِ عُرُوجُ وخيرُ الدينِ منَ الأراضي العثمانيةِ وتركِهِم مسقطَ رأسِهِم ميديلي بعدَ اعتلاءِ سليم خان عرشَ الدولةِ العثمانيةِ، فقدْ كانَ عُرُوجُ مقرَّبَاً من الأميرِ قورقودَ الذي كانَ أخوُهُ سليمٌ الأوَّلُ يعادِيهِ، ثمَّ قتلَهُ بعدما اعتلى العرشَ، وأمَّا خيرُ الدينِ فقدْ لحِقَ بأخيهِ عُرُوجَ إلى تونسَ. بعدَ استقرارِ عُرُوجَ وخيرِ الدينِ في تونسَ طوالَ هذهِ المدَّةِ وازديادِ شهرتِهِمَا وقوَّتِهِما لمْ يعودا يخْشَيَانِ من السلطانِ سليمٍ وقدْ أدْرَكَا سياستَهُ الإسلاميةَ،[41] وبناءً عليهِ أرادا تطويرَ علاقتِهِما بِهِ، فأرْسَلا القبطانَ «محيي الدين بيري ريِّس» إلى إسطنبولَ ومعَهُ هدايا ورسالةً كتبَهَا خيرُ الدين. غادرَ بيري ريِّس تونسَ في ستِّ قطعٍ بحريَّةٍ فوصلَ إسطنبولَ في اليومِ الحادي والعشرين من خروجِهِ، واستقبَلَهُ السلطانُ سليمٌ الأوَّلُ في محرمٍ من عامِ 922هـ الموافقِ لمارسِ/آذارِ عامَ 1516م، ويُذكَرُ أنَّ السلطانَ سليماً بعدَ قراءَتِهِ الرسالةَ رفعَ يدَهُ بالدعاءِ فقالَ: «اللّهُمَّ بَيِّضْ وَجْهَيْ عبدِيْكَ عُرُوجَ وخيرَ الدينِ في الدُّنْيا والآخرةِ، اللَّهُمَّ سَدّدْ رميتَهُما واخذِلْ أعداءَهُما وانْصُرْهُما في البرِّ والبحرِ». ولقِيَ بيري ريِّس حفاوةً كبيرةً من السلطانِ الذي أرسلَ معَهُ سفينتَيْنِ حربيَّتَيْنِ مليئتَيْنِ بالمعداتِ الحربيةِ والقذائفِ إحداهُمَا لعُرُوجَ والأخرى لخيرِ الدينِ، وسيفَيْنِ حُلّيَ مِقْبَضَاهِمَا بالألماسِ وخلعتَيْنِ سلطانيَّتَيْنِ وووساميْن.
في الوقتِ الذي كانَ فيهِ بيري ريّس في إسطنبولَ خرجَ عُرُوجُ وخيرُ الدينِ إلى مضيقِ جبلِ طارقٍ على أنْ يُغِيرُوا من هناكَ على الأندلسِ لإنقاذِ المزيدِ منَ المسلمينَ.[42]
عادَ بيري ريّس إلى تونسَ برسالةٍ من سليمٍ الأوَّلِ إلى السلطانِ الحَفْصيَّ محمدٌ المتوكِّلِ وفيها: «إلى أميرِ تونسَ، إذا وصلَكَ كتابِي هذا فعليكَ أنْ تعملَ بِهِ، واحذرْ أنْ تُخالِفَهُ، وإيَّاكَ وأنْ تُقصِّرَ في خدمةِ أيِّ عَوْنٍ لخادِمَيْنا: عُرُوجَ وخيرِ الدينِ»، واجتمعَ أشرافُ تونسَ في حفلٍ كبيرٍ قامَ فيهِ بيري ريّس بتقليدِ خيرِ الدينِ سيفَ السلطانِ سليمٍ وألبَسَهُ الحِلَّةَ التي أُرسلَتْ له. يذكرُ خيرُ الدينِ في مذكِّراتِهِ أنَّ سلطانَ تونسَ بعدما رأى حفاوةَ السلطانِ سليمٍ الأوَّلَ بالأخوَيْنِ بربروسَ تغيَّرَتْ معاملَتَهُ، وقالَ لخيرِ الدينِ: «إنَّ طريقَكَ وطريقَ أخيكَ عُرُوجَ سينتهي إلى القيادةِ العامَّةِ لبحريةِ الدولةِ العثمانيةِ، فهنيئاً لكُمَا بذلك.» ومنذُ تلكَ اللحظةِ تغيَّرَ موقفُ السلطانِ الحفصيِّ من الأخوَيْنِ وتحفَّظَ عليهِمَا تخوُّفَاً أنْ يأخُذا مملكَتَهُ لصالحِ العثمانيِّينَ.[43]
فتح جيجل[عدل]
يذكرُ خيرُ الدينِ في مذكِّراتِهِ أنَّهُم انسحبُوا بعدَ مناوشةِ بُجايّةَ الثانيةَ إلى جيجلَ كيْ يترصَّدُوا للسفنِ التي قدِمَتْ لمساندةِ الإسبانِ في قلعةِ بُجايّةَ، إلاّ أنَّهُ لا يذكرُ المعركةَ التي جرَتْ معَ الحاميةِ الجنويَّةِ فيها،[44] فيما تُورِدُهَا أكثرُ المراجع. تختلفُ المراجعُ القديمةُ والحديثةُ في تاريخِ دخولِ الأخوَيْنِ بربروسَ إلى جيجلَ فبعضُهَا يحدِّدُهُ بسنةِ 918هـ/1513م وبعضُها بسنةِ 919هـ/1514م والبعضُ الآخرُ بسنةِ 920هـ/1515م،[45] كما حدَّدَهَا بعضُهُم بسنةِ 921هـ/1516م،[46] ويعودُ سببُ الاختلافِ للخلطِ بينَ المحاولاتِ الفاشلةِ للأخوَيْنِ لتحريرِ بُجايّةَ، وأكثرُ المؤرِّخِينَ على أنَّ دخولَهُم جيجلَ كانَ سنةَ 919هـ/1514م.[45][47][48]
بعدَ انسحابِ بربروسَ ببحّارَتِهِم منْ بُجايّةَ توجَّهُوا شرقاً إلى جيجلَ فوجَدا فيها ضالَّتَهُما المنشودةَ، فقدْ كانَتْ محتلَّةً منْ قبَلِ دولةٍ أجنبيةٍ هي جمهوريةُ جنوا (منذُ 1240م) وفتحُهَا يجعَلُهُم مستقلِّينَ فيها بدونِ تبَعِيٍّةٍ لسلطانِ تونسَ، وموقِعُهَا شرقَ بُجايّةَ لتأمينِ طريقِ الإمدادِ منْ تونسَ وقريبةً منها في الوقتِ عيْنِهِ يجعلُهَا صالحةً كمنطقةِ إسنادٍ عندما يعاوُدُونَ الهجومَ على بُجايّة.[33] ورأَوْا أنَّ حصارَ بُجايّةَ ليسَ بالأمرِ الهيِّنِ، ووجودُهُم في تونسَ يُبْعِدُهُم عنْ ساحِ المعركةِ القادمةِ، وهكذا صمَّمُوا على فتحِ جيجلَ، فقامُوا باتِّصَالاتٍ سرِّيَةٍ مكثَّفةٍ مع الأهلينَ والقبائلِ المحيطةِ بها، وبعد استكمالِ الاستعداداتِ قامُوا بالهجومِ على الحاميةِ التي استسلمَتْ بعدَ مقاومةٍ يسيرةٍ، وتمَّ للبحّارةِ الأتراكِ تحريرُ مدينةٍ من يدِ الأوروپيين فكانَتْ أوَّلَ مدينةٍ يفتَحُونَهَا في الجزائر.[49][50][51]
مناوشة بجاية الثانية[عدل]
يذكرُ خيرُ الدينِ في مذكراته أن وفداً من بُجّايةَ طلبَ منْ عُرُوجَ وخيرَ الدينِ تحريرَها منْ الإسبان. حمل الوفدُ رسالةً جاءَ فيها: «إن كان ثمة مغيث فليكن منكم أيها المجاهدون الأبطال. لقد صرنا لانستطيع أداء الصلاة أو تعليم أطفالنا القرآن الكريم لما نلقاه من ظلم الإسبان. فهانحن نضع أمرنا بين أيديكم. جعلكم الله سبباً لخلاصنا بتسليمه إيانا إليكم، فتفضلوا بتشريف بلدنا وعجلوا بتخليصنا من هؤلاء الكفار (يقصدون الإسبان)». إثرَ ذلكَ توجّهَ الأخوانِ لتحريرِ بُجّايةَ، وفي طريقهمْ استَوْلَوْا على سفينةٍ محملةٍ بالشمعِ وعليها أربعونَ أسيراً من الموريسكيين فحرّروهمْ وأرسلوهُمْ إلى تونسَ مع «دلي محمد ريس». وصلوا بُجّايةَ معَ ألفينِ وثلاثةٍ وثلاثين بحاراً وعشرةِ سفنٍ ومئةٍ وخمسينَ مدفعاً بحرياً، وآلاف ٍمن الأسرى مِمّنْ يقومونَ بالتجديفِ (مضتِ العادةُ شدَّ وَثاقِ الأسرى منْ قبلِ الجانبينِ على السفنِ الشراعيةِ للقيامِ بالتجديفِ)، واشتبكُوا معَ الإسبانِ في معركةٍ لثلاثِ ساعاتٍ ونصفِ الساعةِ قُتلَ فيها أكثرُ الإسبانِ، ولحقَ بالبحارةِ عشرونَ ألفاً من أعراب البوادي. تحصّنَتْ بقلعة بُجّايةَ شرذمةٌ منَ الإسبانِ المتبقّينَ استمرتْ في المقاومةِ تسعةً وعشرينَ يوماً، وحالَ عدمُ امتلاكِ الأتراكِ مدافعَ ثقيلةً لقصفِ الحصونِ دونَ فتحِ ثغرةٍ في القلعةِ واستيلائِهِم عليها.[52] [كانتِ المدافعُ البحريةُ تطلقُ منَ السفنِ ومخصصةً للمعاركِ البحريةِ وقصفِ السفنِ بالدرجةِ الأولى وبالتالي أخفَّ وزناً وأضعفَ تأثيراً في التحصيناتِ البريَّةِ].
تذكرُ المراجعُ العربيةُ أنَّ الوفدَ الذي قدِمَ منْ بُجّايةَ إلى جيجلَ كانَ قبلَ مناوشةِ بُجّايةَ الأولى، إلا أنَّ خيرَ الدينِ يذكرُ قدومَهُ قبلَ مناوشةِ بُجّايةَ الثانيةِ كما أسلفنا. ويذكرُ المؤرخُ الجزائريُ «أحمد توفيق المدني» أنَّ المسلمينَ في جيجلَ والجبالِ المحيطةِ التفّوا حولَ عروجَ لِمَا رأوْا منْ إيمانِه وأخلاقِه وقوةِ شخصيتِه ما جعلهمْ يبايعونَهُ أميراً عليهم، ويعاهدونه على السير خلفه في القتال. وهكذا تمكّن عروجُ منْ إنشاءِ جيشٍ منظّمٍ درّبَه على استعمالِ الأسلحةِ الحديثةِ للرمايةِ، وقدْ وعدَهُ الشيخُ أحمدُ بنِ القاضي شيخُ منطقةِ زواوةَ الغربيةِ (إمارة كوكو) بالإعانةِ والتأييد، وأخذَ علماءُ الدينِ يستنفرونَ الناسَ للجهادِ وعمّتِ الدعوةُ وانتشرتْ. انطلقَ عروجُ إلى بُجّايةَ في جمادى الآخرةِ 920هـ-أغسطس/آب 1514م بجيشٍ من عشرين ألفاً وأحاط بالمدينةِ، واشتبكَ معَ حاميَتِها في معاركَ ضاريةٍ، وفي الوقتِ نفسِهِ يدرسُ الموقعَ ويحاولُ اكتشافَ نقاطِ الضعفِ فيهِ، وبعدَ ثلاثةِ أشهرٍ ولمَّا عجِزَ عنْ فتحِهِ رجعَ إلى جيجلَ خلالَ نوفمبر/تشرين الثاني-رمضان ليُمْضِيَ الشتاءَ ويُعِيدَ تنظيمَ جيشِهِ وتموينِه.[53] وتذكرُ مراجعُ أخرى أنَّ البحارةَ الأتراكَ بقيادةِ عُرُوجَ خرجُوا منْ جيجلَ كرةً أخرى ربيعَ عامِ 1515 قاصدينَ بُجّايةَ (ذكرَهَا «أحمدُ توفيقِ المدنيِّ» كمناوشةٍ ثالثة).[54] قدّرتِ المراجعُ جيشّهُ البرّي بحوالي عشرينَ ألفاً، كما أمرَ عمارتَه البحريَّةَ بالتّوجُهِ إلَيْهَا أيضاً. التقتِ الحملتانِ البريّة والبحريّةُ شرقَ بُجّايةَ عندَ مصبِّ وادي الصومامِ وكانتْ مياهُهُ مازالتْ صالحةً للملاحةِ فاقتحمتْهُ السفنُ [يمتازُ القادسُ (بالإنجليزية: Galley) (السفينةُ الرئيسيةُ المستخدمةُ في المتوسطِ) بكفاءةٍ برمائيةٍ عاليةٍ مقارنةً بغيرهِ بسببِ مرونتِهِ في المناورةِ وقلةِ عمقِ غاطسِه] لإحكامِ حصارِ المدينةِ منَ الجهاتِ كافّةً، وشرعَ بهجومٍ عامٍّ استمرتْ معاركُهُ أربعةً وعشرينَ يوماً، ولطولِ الحصارِ وشراسةِ المعاركِ نفدَ البارودُ منَ المجاهدينَ، وكانَ عُرُوجُ أرسلَ يطلبُهُ منْ سلطانِ تونسَ لكنَّ الأخيرَ ماطلَ بإرسالِهِ، ولذلكَ فكّّ الحصارَ وفشلِ تحريرُ بُجّايةَ للمرةِ الثانية. كانتِ النتيجةُ فقدانَ الإسبانِ حواليَ ألفَيْنِ بينَ قتيلٍ وأسيرٍ وجريحٍ، وفقدَ عُرُوجُ نحوَ ربعِ قوَّاتِه البريّةِ والبحريةِ واضطُرَّ إلى حرقِ سفنِهِ التي تَقَحَّمَ بِهَا وادي الصومام بسببِ جفافِ مياهِهِ، وعادَ بمنْ بقيَ من جيشِهِ برّاً إلى جيجلَ.[55][56] تذكر مراجعُ أخرُ دوامَ الحصارِ ثلاثةَ أشهرٍ لأنَّ أربعةً وعشرينَ يوماً غيرُ كافيةٍ لجفافِ مياهِ النهرِ بهذا الشكلِ[56]، لكنْ بالمقابلِ فإنَّ ثلاثةَ أشهرٍ وقتٌ طويلٌ كافٍ لكيْ يُسارعَ الإسبان لنجدةِ حامِيَتِهِمْ.
فتح قلعة بجاية[عدل]
يذكرُ خيرُ الدينِ في مذكّراتِه أنهُ بعدَ تسعةٍ وعشرين يوماً على حصارِ بُجّايةَ وعدمِ تمكّنِهِمْ منها وصلتْهُمْ أنباءٌ عنْ تحركِ قُوّاتٍ إسبانيةٍ كبيرةٍ من جزيرةِ منورقة إلى بُجّايةَ، فانسحبُوا إلى جيجلَ، ثمَّ أبحرَ خيرُ الدينِ يترصّدُ هذهِ القوّاتِ، وعندما لاحتْ لهمْ وجدَها عشرَ سفنٍ مشحونةٍ بالأسلحةِ والمعداتِ، فشنَّ هجوماً عليها في معركةٍ كبيرةٍ أسفرتْ عنْ استيلائِه على جميعِ السفنِ، ولمْ يبقَ منَ الجندِ الإسبانِ على قيدِ الحياةِ سوى ثمانيةٍ وسبعينَ أُخِذُوا أسرى وقُيِّدُوا لِيعملُوا في التجديفِ، ثمَّ قامَ خيرُ الدينِ معَ خمسمئةِ بحارٍ بكمينٍ بواسطةِ السفنِ الإسبانيةِ، إذِ اتّجَهُوا بهَا إلى بُجّايَةَ حيثُ كانَ الإسبانُ ينتظرونَ المَدَدَ منْ منورقةَ، وعندَ دُنُوِّهِمْ منَ القلعةِ فتحَ الإسبانُ الأبوابَ وتَدَفّقُوا خارجاً لاستقبالِ السفنِ النجدةِ، فأمرَ خيرُ الدينِ بحارتَهُ بالإبرارِ إلى الساحلِ مضيفاً في مذكّراتِه أنَّ الإسبانَ عندَ سماعِهِم أصواتَ التكبيرِ والتهليلِ بُغِتُوا واضطرَبَتْ صفوفُهُم وَوَلَّوا مُنْهَزِمِين، فتمكّنُوا منْ فتحِ القلعة فيما راحَ الإسبانُ يطلبونَ الأمان. بعدَ الفتحِ وفدَ شيوخُ وزعماءُ المناطقِ المجاورةِ مبايعينَ خيرَ الدينِ، وانتصبَ عروجُ وخيرُ الدينِ ملكَيْنِ على البلاد. رجعَ خيرُ الدينِ إلى جيجلَ حيثُ كانَ عروجُ وهنّأهُ بالفتحِ. استطاعَ خيرُ الدينِ في هذهِ الحملةِ الاستيلاءَ على ثمانمئةِ برميلٍ منَ البارودِ (سُرَّ البحارةُ بالبارودِ بصفةٍ خاصةٍ إذْ لمْ يعدْ سلطانُ تونسَ يُزوِّدُهُمْ بِهِ، وَأضْحَى يُعرِضُ عنهُمْ)، وشيئاً كثيراً من الغنائم.(1)[57] وتذكرُ المراجعُ أنَّ الإسبانَ استطاعُوا استردادَ بُجّايةَ في الحال.[46] وبقِيَتْ حتى حرّرَهَا صالحُ ريِّسٍ عامَ 1555م أثناءَ ولايتِه.
وفود مدن الجزائر[عدل]
بينما كان الأخوة عُرُوجُ وخيرُ الدينِ في جيجلَ وصلتْ وفودٌ عديدةٌ منَ المدنِ الجزائريّةِ تطلبُ منهم تحريرَ مدنِهِمْ منَ الاحتلالِ الإسبانيِّ ومنَ الأمراءِ المحليّين المتعاونينَ معهُمْ.[58] وكانَ أهمُّها وفدُ مدينةِ الجزائرِ التي تُمَثِّلُ مركزَ البلادِ،[59] طلبَ هذا الوفدُ منَ عُرُوجَ القدومَ إلى مدينةِ الجزائرِ لطردِ الإسبانِ والاستيلاءَ بالأخضِّ على «حصنِ البنيون» أو «حصنِ الصخرةِ» الذي قامَ هؤلاءِ ببنائِه سنةَ 916هـ/1510م على جزيرةٍ صخريةٍ تقعُ على مسافةِ ثلاثمئةِ مترٍ أمام مدخلِ ميناءِ الجزائرِ، وكانَ مصدرَ إزعاجٍ واعتداءاتٍ مستمرةٍ ضدَّ سكانِ المدينةِ،[60][61] وكانَ تمركُزُهُمْ فيهِ مكّنهمْ منَ التحكمِ بمدخلِ الميناءِ، فشلُّوا الفعاليّاتِ البحريَّة من تجارةٍ وصيدٍ وتنقُّلٍ، وضيّقُوا على السكانِ وفرضُوا عليْهِمُ الضّرائب.[62][63] وعليْهِ خلَّفَ عُرُوجُ أخاهُ خيرَ الدينِ على جيجلَ،[59] وقرّرَ المسيرَ نحوَ مدينةِ الجزائرِ في خمسمئةِ بحارٍ حسَبَ مذكراتِ خيرِ الدينِ، وتذكرُ المراجعُ العربيةُ أنّه خرجَ برّاً في ثمانمئةِ بحارٍ وشحنَ ستَّ عشرةَ سفينةً بالمدفعيةِ والذخيرةِ وأرسلَهَا معَ نصفِ جنودِهِ، وفي طريقِهِ انضمَّ إليْهِ خمسةُ آلافٍ منْ مقاتلي القبائل.[46][64][65] وتنصُّ مصادرُ أُخَرُ أنَّه خرجَ في ثمانمئةِ بحارٍ، وأرسلَ أخاه خيرَ الدينِ بثماني عشرةَ سفينةً تحملُ ألفاً وخمسمئةِ مقاتلٍ؛[66] إلا أنَّ هذا القولَ يتعارضُ معْ ما أورَدَهُ خيرُ الدينِ في مُذَكّراتِهِ منْ أنَّه بقيِ في جيجلَ.[59] وتوجَّهَ عُرُوجُ إلى شرشالَ أولاً فَفَتَحَهَا، وتركَ فيها حاميةً لحراستِهَا. ترى بعضُ المصادرِ أنَّ مسيرَهُ إلى شرشالَ أولاً كانَ بغيةَ تأمينِ مكانٍ للالتجاءِ إليْهِ وقتَ الشدّةِ، أو أنَّه كانَ ينتظرُ وصولَ بعضِ المهاجرين الأندلسيّين لضمّهم إليْهِ، أو انتظاراً لأخيهِ خيرِ الدينِ بعدما أرسلَ لهُ بضرورةِ الالتحاقِ بِهِ، وربّمَا إشهاراً لحملتِهِ حتى يلتحقَ بهِ رجالُ القبائلِ، وبكلِّ الأحوالِ يكسبُ وقتاً كافياً لدراسةِ الموقفِ بوضوح. يُجمعُ المؤرخون أنَّ عُرُوجَ حينَ دخلَ مدينةَ الجزائرِ سنةَ 921هـ/1516م استقبلَهُ أعيانُهَا ووجهاؤُهَا وأعدادٌ غفيرةٌ من أهلِهَا استقبالَ الفاتحينَ المنقذين، ورحّبُوا بهِ ترحيباً حاراً.[10][65][67]
عندما كانَ عُرُوجُ في طريقِهِ إلى مدينةِ الجزائرِ غادرَ خيرُ الدينِ جيجلَ إلى تونسَ، وقدْ ذكرَ في مذكّراتِهِ على أنَّ سلطانَ تونسَ جاهرَ بعداوَتِهِمْ، إلاّ أنَّهُ عنْدَمَا رأى خيرَ الدينِ مقبلاً إلى عاصمتِهِ خشيَ على نفسِهِ، وتظاهرَ بالثناءِ عليْهِم، واعتذرَ عنْ تقصيرِهِ في عدمِ تزويدِهِمْ بالبارودِ، ويذكرُ خيرُ الدينِ أنّهُ تظاهرَ بانخداعِهِ بكلامِهِ، وتجوّلَ معهُ في المدينةِ، ثمَّ عادَ إلى المرسى قبلَ أنْ يقْفلَ راجعاً إلى جيجلَ برفقةِ أخيهِ إسحاقَ بعْدَمَا وجّهَ رؤساءَ البحرِ ومنهم بعضُ الرؤساءِ المشاهيرِ مثلُ: «كوردوغلو مصلح الدين ريس» و«دلي محمد ريس» بالتوجهِ للغزوِ في شرقِ المتوسطِ ونواحي قبرصَ فخرجُوا في سبعِ قطعٍ بحريةٍ، وصادفُوا في طريقِهِم بينَ قبرصَ ومصرَ الأسطولَ العثمانيَّ فتبعوهُ حتى دخلُوا ميناءَ الإسكندريةِ، وفي الأثناءِ كانَ السلطانُ سليمٌ الأولُ مُعسكِرَاً في القاهرةِ بعدَما أتمَّ فتح مصر. قابلَ السلطانُ سليمٌ بمصلحِ الدينِ واحتفى بهِ، وأمدَّهُ بعددٍ كبيرٍ من الجندِ وكميةٍ وفيرةٍ من معداتِ الحربِ، ليعودَ بها إلى الجزائر.[46][68] والحقُّ إنَّ إرسالَ خيرِ الدينِ جزءاً من أسطولِهِ للغزوِ شرقَ المتوسطِ (وقد كانَ بإمكانِهِ الغزوُ غربَ المتوسطِ وبذا يبقى قريباً وجاهزاً للتدخلِ في أقربِ وقتٍ) في حين إنَّ جيشَهُ موزعٌ ما بينَ جيجلَ ومدينةِ الجزائرِ وعلى أبوابِ فتحٍ كبيرٍ مدعاةٌ للتساؤلِ، إلاّ أنْ يكونَ -وهوَ الأرجحُ- اتّفقَ معَ أخيهِ عُرُوجَ على إرسالِ بعثةٍ سرّاً إلى السلطانِ العثمانيِّ -وهو بعدُ في مصرَ- لطلبِ الإمدادِ بالعتادِ -وهو ما يحققُ لهما الاستقلالَ عن معونةِ صاحبِ تونسَ- وربّمَا ترتيبِ أمورٍ أبعدَ مدىً كإعلانِ الجزائرِ ولايةً عثمانيةً مثلاً، وذلكَ منْ دونِ إثارةِ حفيظةِ السلطانِ الحفصيِّ في تونسَ وقدْ تَوَجَّسُوا منه وتَوَجّسَ منهم وبدا منهُ الجفاءُ منذ الاحتفالِ البالغِ برسالةِ سليمٍ الأولِ وهداياه، وهذا ما يُفسِّرُ زيارةَ خيرِ الدينِ الوديَّةَ إليهِ ريثما تظهرُ نتيجةُ البعثةِ السريّةِ.
عروج حاكما على مدينة الجزائر[عدل]
تذكرُ المراجعُ أنَّ عُرُوجَ حالما وصلَ مدينةَ الجزائرِ أرسلَ إلى قائدِ الحاميةِ الإسبانيةِ في حصنِ البنيون يأمرُهُ بتسليمِ القلعةِ، فردَّ الأخيرُ بالنفي، فوجّّهَ عُرُوجُ مدافعَهُ نحوَ الحصنِ وبدأ بقصفِهِ واستمرَّ على ذلكَ عشرينَ يوماً إلاّ أنَّ مدافعَهُ كانتْ ضعيفةًً ولمْ تؤثِّرْ في الحصنِ ممّا أضعفَ ثقةَ الأهالي بالبحارةِ الأتراك، وتذكرُ بعضُ المراجعِ العربيةِ أنَّ البحارةَ كانوا يعاملونَ السكانَ المحليّينَ معاملةً فظّةً، فتوجّهَ «سالمٌ التومي» الحاكمُ السابقُ لمدينةِ الجزائرِ للاتفاقِ معَ الإسبانِ على طردِ الأتراكِ من الجزائرِ بهدفِ استرجاعِ سلطتهِ السابقةِ، ولمّا علمَ عُرُوجُ بالاتفاقِ اعتبرَهُ خيانةً، وأمرَ بقتلِ «سالماً التومي» ليصبحَ عُرُوجُ صاحبَ السلطةِ المطلقةِ في مدينةِ الجزائرِ وما حولها، فأعلنَ نفسَهُ سلطاناً عليها، ورفعَ رايتَهُ فوقَ أسوارِها وقلاعِها وبادرَ بسكِّ النقدِ الذي يحملُ شعارَه. وفي 2 رمضان 922هـ/30 سبتمبر/أيلول 1516م شنَّ الإسبانُ غارةً على مدينةِ الجزائرِ بعمارةٍ بحريةٍ من خمسةٍ وثلاثين إلى أربعين سفينةً محملةً بالجندِ، ودارتْ معَ عُرُوجَ وجيشِهِ من الأتراكِ والجزائريين والمهاجرين الأندلسيين معركةٌ كبيرةٌ انتهتْ بانتصارِ عُرُوجَ نصراً حاسماً.[58][69][70][71][72]
كتب عُرُوجُ إلى خيرِ الدينِ في جيجلَ يبشّرُهُ بالنصر، وعندما وصلَهُ كتابُهُ كانَ يستعدُّ للخروجِ برفقةِ أخيهِ الأكبرِ إسحاق ريّس إلى مدينةِ الجزائرِ في عشرِ قطعٍ بحريةٍ لمساعدةِ عُرُوجَ، فلمّا لمْ تعدْ من حاجةٍ لذلكَ خرجُوا للغزوِ في البحرِ فاسْتوْلَوْا على ستَّ عشرةَ قطعةً بحريةً محملةً بالبارودِ والرصاصِ والألواح والقطران والزيت والأرز والقمح، ورجعوا إلى جيجلَ بعد تسعةٍ وعشرينَ يوماً، ثمّ وصلَه كتابٌ من عُرُوجَ بعدَ أوبتِهِ إلى جيجلَ يأمرُه فيه بالقبضِ على أحدِ الشيوخِ كانَ يشي للإسبانِ بتحركاتِ عُرُوجَ، فخرجَ خيرُ الدينِ بخمسمئةِ بحارٍ إلى الجبالِ وقبضَ عليهِ وأمرَ بضربِ عنقِهِ وعيّنَ آخرَ بدلاً منه.[73][74]
بعدَ أيامٍ توجّهَ خيرُ الدينِ في أكثر من عشرينَ سفينةٍ إلى مدينةِ الجزائرِ حيثُ اجتمعَ ثمّةَ بأخويْهِ إسحاقَ وعروج. وكان عُرُوجُ يريدُ ضمَّ مدينةِ تنسَ إلى نفوذِهِ، وتذكرُ بعضُ المراجعِ أنَّ أهلّ المدينةِ أرسلُوا له وفداً يطلبُ تحريرها من حاكمِها من الأسرة الزيانية المتعاونُ مع الإسبانِ وقد جعلَ سلطتَه تحتَ حمايتِهِم، فتوجّه خيرُ الدينِ إلى مدينةِ تنس في عشرةِ سفنٍ، فصادفَ أربعَ سفنٍ إسبانيةٍ راسيةٍ في الميناءِ، وعندما رأى الإسبانُ عمارةَ خيرِ الدينِ هُرِعُوا إلى القلعةِ محتمين بأسوارِها، فاستولى خيرُ الدينِ على سفنِهم وعتادِهم، ثمّ نزلَ بألفٍ وخمسمئةِ جنديٍّ وعسكرَ أمامَ القلعةِ متوقعاً مقاومةً شديدةً غيرَ أنّه وجدَ أبوابَ القلعةِ مفتوحةً فيما خرجَ لاستقبالِهم بضعُ مئاتٍ من السكانِ مرحّبينَ وبايعُوا عُرُوجَ سلطاناً عليهم وأخبروهم أن أميرَ تنس الزياني ورجالَه هربُوا مع الإسبان، فأرسلَ خيرُ الدينِ خلفَهم ألفَيْ مقاتلٍ حتى أدركوهم ودارتْ بينهمْ معركةٌ انتهتْ بأسرِ ثلاثمئةٍ وخمسينَ جندياً إسبانياً وأما بقيّتهم فقُتلُوا في حين فقدَ خيرُ الدينِ من مقاتليه سبعين أو ثمانين. قامَ خيرُ الدينِ بتعيينِ أحدِ الضباطِ نائباً على المدينةِ وتوجهَ في ستَّ عشرةَ قطعةً بحريةً إلى الجزائرِ. ماإن عادَ خيرُ الدينِ حتى تمكّنَ أميرُ تنسَ السابقَ من الرجوعِ إلى المدينةِ بمساعدةِ الإسبانِ وعمُّه سلطانُ تلمسانَ، فثارتْ حميّةُ عُرُوجَ لسماعِهِ الخبرَ وقرَّرَ السيرَ إلى تنسَ بنفسِهِ واستصدرَ فتوىً من علماءِ مدينةِ الجزائرِ بإباحةِ دمِ الأميرِ لتعاونِهِ مع الإسبانِ، وبعد وصولِهِ في جمادى الأولى 923هـ-يونيو/حزيران 1517م قامَ أهالي تنسَ بتقييدِ الأميرِ الزياني وسلّمُوه لعُرُوجَ فأمرَ بضربِ عنقِهِ، ودعا بعددٍ من الرؤساء ممّنْ بايَعُوه للمثولِ بين يديْهِ وأمرَ بضربِ أعناقِهِم، وهكذا دخلتْ تنسُ تحتَ نفوذِه. ودخلَ عددٌ من المدنِ الجزائريةِ تحتَ نفوذِهِ كذلكَ وهي المديةُ ومليانةُ والبليدةُ. يذكرُ المؤرخون أنَّ عروجَ عاملَ أخاه خيرَ الدينِ كمعاملتِهِ لنفسِهِ فقامَ بتقسيمِ دولتِهِ الجديدةِ إلى مقاطعَتَيْنِ شرقيةٍ يشرفُ عليها خيرُ الدينِ ومقرُّها مدينةُ دلس، وغربية يقومُ عليها بنفسِهِ ومقرُّها الإداري مدينةُ الجزائرِ، وكلُّ مقاطعةٍ تضمُّ خمسَ بلدياتٍ.[75][76][77]
معركة تلمسان واستشهاد كل من إسحاق وعروج[عدل]
«كنّا أربعةَ إخوةٍ، شهدْتُ استشهادَ ثلاثةٍ منهم. ماأعظمَ حكمةَ اللهِ تعالى فأنا الوحيدُ الذي لمْ تُقَّدرْ له الشهادةُ، ممّا يعني أنّ إخوتي الثلاثةَ أفضلُ منّي عندَ اللهِ. جعلَ اللهُ مقامَهُم جميعاً في الجنةِ، آمينْ بحرمةِ سيدِ المرسلينَ {{صلّى اللهُ عليهِ وسلّم}}. عندما وصلَ خبرُ استشهادِ أخي إلى الجزائرِ قرّرْتُ أنْ أعيشَ لغايةٍ واحدةٍ هيَ المضيُّ في نفسِ الطريقِ الذي سارَ فيهِ أخي، تلكَ الغايةُ التي كانتْ تتمثلُ في التضييقِ على الكفارِ في إفريقيا والبحرِ الأبيضِ المتوسطِ، فما قيمةُ الحياةِ بعدَ مقتلِ أخي؟» |
— خير الدين بربروس[78] |
كانت مملكةُ تِلِمْسانَ غربيَّ الجزائرِ يحكمُها بنو زَيَّان الذينَ قبِلُوا بالرضوخِ تحتَ الحمايةِ الإسبانيةِ، وسنةَ 923هـ/1517م ثارَ الأهالي على السلطانِ أبو حمو موسى الثالثُ فولَّى هارباً، وأرسلُوا إلى عُرُوجَ يبايعُونَه ويدعونَهُ إلى تِلِمْسانَ. سُرّ عُرُوجُ لانضمامِ أهالي تِلِمْسانَ له دونما قتالٍ، مثلما أحدثتْ دعوتُهمْ لعُرُوجَ هلعاً كبيراً للإسبانِ لأنها عنتْ مدَّ نفوذِهِ إلى حدودِ مملكة فاس. أرسلَ عُرُوجُ يأمرُ بقطعِ جميعِ العلاقاتِ معَ وهرانَ حيثُ كانتِ الحاميةُ الإسبانيةُ الرئيسةُ، وفيها يقيم القائدُ الإسبانيُّ الأعلى في إفريقيا، ثمَّ توجَّهَ إلى تِلِمْسانَ بقواتهِ بعدما تركَ خيرَ الدينِ ينوبُ عنهُ في الجزائرِ. في طريقِهِ واجهَ جيشاً من ثلاثةِ آلافِ جنديٍّ وستةِ آلافِ خيالٍ بقيادةِ السلطانِ الزيانيِّ «أبي حمو موسى الثالث» إلاّ أنّهُ انتصرَ عليهِ وأكملَ طريقَهُ، ومالبثَ عُرُوجُ أنْ أعلنَ نفسَهُ حاكماً على تِلِمْسان. حشدَ الإسبانُ جيشاً عرمرماً انضمَّ لهُ السلطانُ الهاربُ بجيشِهِ بهدفِ استعادةِ عرشِهِ، فخرجَ عُرُوجُ لملاقاتِهمْ (حسبَ خيرِ الدينِ في مذكرّاتِهِ[79] فإنَّ عُرُوجَ وافقَ -لقلّةِ قوّاتِهِ- على عرضِ الإسبانِ بتركِ المدينةِ والعودةِ للجزائرِ فلمّا خرجَ منْهَا غدرُوا بهِ وهاجمُوه)، ودارتْ بينَهُم معركةٌ كبيرةٌ عندَ نهرِ الملح (بالإسبانية: Rio Salado) انتهتْ باستشهادِهِ في جمادى الأولى 924هـ الموافقِ لأيار/مايو 1518م، وحزَّ الإسبانُ رأسَهُ وأرسلُوه إلى شارلكانَ. وكانَ «إسحاقُ ريِّس» اسْتُشْهِدَ قبلَ ذلكَ في قلعةِ بني راشدٍ (قلعةِ القلاعِ) أواخرَ شهرِ المحرمِ/كانون الأول/يناير من العامِ نفسِهِ.[80][81][82][83][84][85]
خيرُ الدينِ والياً عثمانياً[عدل]
بكلربك الجزائر[عدل]
بعد استشهادِ عُرُوجَ (1468-1518م) أجمعَ البحّارةُ على تسليمِ القيادةِ إلى خيرِ الدينِ وذلكَ سنةَ 924هـ/1518م. تأثّرَ خيرُ الدينِ كثيراً لاستشهادِ أخيه مع أفضلِ العساكرِ، علاوةً فقدْ تخلّى عنهُ بعضُ أصدقائِهِ من قادةِ البحّارةِ لشعورِهِم بأنّه لنْ يستطيعَ أنْ يكونَ بديلاً عنْه.[86] في الوقتِ نفسِهِ واجهَ موقفاً عصيباً ودقيقاً فقدِ انتفضَ عددٌ من النواحي على حكمِ الأتراكِ بعدَ استشهادِ أخيه، فثارتْ قبيلةُ زواوةَ بقيادةِ أحمدَ بنِ القاضي، واستغلَّ سلطانُ تونسَ الفرصةَ فأرسلَ طالباً منْهُ أنْ يعترفَ بسلطةِ الحفصيينَ ويخضعَ لهُ، إضافةً لتوقّعِهِ بمسيرِ الإسبانِ إلى الجزائرِ للقضاءِ عليهِ بعدما تمكّنُوا منْ أخيه. اجتمعتْ هذهِ الظروفُ العسيرةُ كافّةً على خيرِ الدينِ وراودتْهُ الفكرةُ بالرحيلِ عنِ الشمالِ الإفريقيِّ والتوجّهِ إلى إسطنبولَ.[87] ولو أرادَ لأمَّنَ لنفسِهِ تقاعداً مريحاً وعملاً في التجارةِ بما تحصَّلَ لهُ منْ مالٍ، لكنَّ إباءَهُ وأنَفَةَ نفسِهِ وعلُوَّ هِمّتِهُ أبتْ عليهِ الاستكانةَ وتركَ الجهاد.
أثناءَ هجومِ الإسبانِ على تِلِمْسانَ تمرّدَتْ تنسُ وشرشالُ مع عودةِ حُكّامِهما القُدامى، وباتَ أحمدُ بنِ القاضي يحرِّضُ الأهالي والقبائلَ لتخلوَ الساحةُ له. إزاءَ ذلكَ وجّهَ خيرُ الدينِ جندَهُ إلى تنسَ وشرشالَ لتأديبهما بينما أجّلَ تأديبَ القبائلِ القويةِ لظروفٍ لاحقةٍ أنسبَ. اتَّبَعَ خيرُ الدينِ سياسةً حكيمةً ما جعلَ العلماءَ يقفُونَ بجانبِهِ، ويعاهدُونَهُ على طردِ الأجنبيِّ منَ البلادِ، كما دفعتْ سياسَتُهُ قسماً كبيراً من الأهالي لمساندِتِهِ وتأييِدِهِ علناً والتخلي عنْ معاداتِه. كانَ ممّا عانى منهُ أيضاً تأمينَ السلاحِ والبارودِ، أمّا أبو حمو الزيَّانيّ فبعدما تسنَّمَ عرشَهُ ثانيةً في تِلِمْسان بعدَ استشهادِ عُرُوجَ مدَّ نفوذَهُ حتى مليانةَ، فغدا بذا على مقرُبَةٍ منَ الجزائرِ.
يذكرُ المؤرخُ «أحمدُ توفيقِ المدنيّ» أنَّ أهلَ الحلِّ والعقدِ اجتمعُوا في الجزائرِ وعرضُوا -بشديدِ إلحاحٍ- على خيرِ الدينِ تولّي الإمارةِ بعدَ أخيه ومواصلةِ جهادِهِ في سبيلِ اللهِ منها، لكنّهُ اعتذرَ وصرَّحَ لهمْ بعزمِهِ على استئنافِ الجهادِ على متنِ البحرِ، وعزمِهِ السفرَ إلى إسطنبولَ يطلبُ منها أسطولاً للجهادِ، فأجابَهُ العلماءُ: «إنّ اللهَ يوجبُ عليك البقاءَ في هذهِ المدينةِ الإسلاميةِ ولايسمحُ لكَ الدينُ بتركِها نهبةً للمفترسِ». نقلَ المؤرخُ التونسيُّ أحمدُ بنِ أبي الضيافِ (03-1874م) ما دارَ بينَ خيرِ الدينِ وبينَ أعيانِ الجزائرِ إذْ قالَ لهُمْ بأنّه: «بقيَ منفرِدَاً دونَ إخوتِهِ.. وقدْ رأيتُمْ ما فعلَهُ بنا صاحبُ تِلِمْسانَ من بني زيّانٍ، واستعانتُهُ علينا بغيرِ ملّتِنَا حتى كفانا اللهُ أمرَهُ، وصاحبُ تونسَ الحفصيِّ لا رأيَ لهُ في نصرتِنَا وإعانتِنَا، وأسلمَنا للعدوِّ بمنعِ البارودِ عنا أثناءّ حملةِ بُجّايَةَ لولا لطفِ اللهِ، فالرأيُ هو أنْ نصلَ أيدينا بالقوةِ الإسلاميةِ -وهو السلطانُ سليمُ خان- ونعتمدَ عليهِ في حمايةِ هذهِ المدينةِ، ولايكونُ ذلكَ إلاّ ببيعتِهِ والدخولِ في طاعتِهِ، بالدعاءِ لهُ في الخطبِ على المنابرِ، وضربِ السكةِ باسمِهِ لنتفيأَ ظلَّ حمايتِهِ...»[88]
هكذا كانَ الواقعُ السياسيُّ المتشرذمُ في شمالِ إفريقيا -كما خبِرَهُ خيرُ الدينِ وعايَشَهُ- هوَ ما فرضَ مدَّ اليدِ للعثمانيين وليستْ شهوةُ أولاءِ للتوسعِ والنفوذِ. أدركَ خيرُ الدينِ بمعاينَتِهِ للواقعِ حاجتَهُ لدولةٍ قويةٍ يُعتَمَدُ عليها وقتَ الشدةِ والضّيقِ، وكانَ آنذاكَ نجمُ الدولةِ العثمانيّةِ يسطعُ أقوى مايكونُ، وحكومتُها أفضلُ منْ يمكنُهُ من خلالِ دعمِها ضمانُ وجودِ دولتِهِ وتقويةِ نفوذِها، فضلاً عن أنّها دولةٌ إسلاميةٌ إطارُها العالمُ الإسلاميُ وتهدفُ لحمايةِ الإسلامِ، لذا قرّرَ الانضواءَ تحتَ حمايتِها.[89] أرسلَ خيرُ الدينِ «حاجي حسين آغا» أحدَ أوثقِ رجالِه إلى السلطانِ سليمٍ الأولَ في إسطنبولَ الذي استقبلَهُ بقبولٍ حسنِ وأكرمَ وِفادتَهُ ومنْ يصحبُهُ منَ البحّارةِ، وبعد مُكثه في الأستانةِ واحداً وأربعينَ يوماً وقبلَ مغادرتِهِ وفي زيارةِ وداعٍ للسلطانِ سليمٍ، سلمه السلطانُ فرمانَ تعيينِ خيرِ الدينِ «بكلربك» (تُلفظُ «بَيْلربَي» بالتركيّةِ العثمانيّةِ وتعني أميرَ الأمراءِ) على الجزائرِ، وبذا غدتِ الجزائرُ ولايةً عثمانيةً كاملةً (كانتْ يومَ ضمّها عُرُوجُ بمنزلةِ قضاءٍ أو سنجقٍ)، ثمّ سلّمَهُ سيفاً مُرَصَّعَاً وخِلعةً مُذَهّبَةً ورايةَ الإمارة. ولمّا أزفتْ ساعةُ الرحيلِ أمرَ السلطانُ أنْ تُبحرَ السفنُ الجزائريةُ بقربِ قصرِ طوبْ قابي (مقرِّ السلطانِ) كي يراها، فقامتْ السفنِ باستعراضٍ بينَ يديْهِ وهي تُطلقُ القذائفَ تحيةً له.
يذكرُ المؤرخون وثيقةً (محفوظةً اليومَ في متحفِ قصرِ طوبْ قابي) عبارةً عن رسالةٍ من سكانِ الجزائرِ على اختلافِ سويّاتِهِم مؤرخةً أوائلَ ذي القعدةِ عامَ 925هـ ما بينَ 26 أكتوبر/تشرينَ الأولِ إلى 3 نوفمبر/تشرينَ الثاني عامَ 1519م كُتبتْ بأمرِ خيرِ الدينِ إلى السلطانِ سليمٍ الأولِ في إسطنبولَ، والغرضُ منها تأكيدُ ربطِ الجزائرِ بالدولةِ العثمانيةِ، وفيها أنَّ خيرَ الدينِ كانَ شديدَ التّوْقِ لأنْ يَمْثلَ بنفسِهِ بينَ يدَيْ السلطانِ ليعرضَ عليهِ شخصياً أبعادَ قضيةِ الجزائرِ، ولكنَّ زعماءَ الجزائرِ توسّلُوا إليهِ البقاءَ ليستطيعَ مواجهةَ الأعداءِ إذا ماتحركُوا، وطلبُوا أنْ يرسلَ سفارةً نيابةً عنه. كانتِ الرسالةُ التي حملتْها البعثةُ موجهةً باسمِ القضاةِ والخطباءِ والفقهاءِ والأئمةِ والتجارِ والأعيانِ وعمومِ سكانِ مدينة الجزائر.[90] ولاشكَّ أنّ موافقةَ الأعيانِ عليها بعدَ كتابتِها منْ قبلِ خيرِ الدينِ باللغةِ العثمانيةِ -المجهولةِ من قبلِهم- دليلُ ثقتِهم بهِ وتوكيلِهِ أمرهِم.
بعدَ رجوعِ حسينِ آغا معَ الوفدِ قبِلَ خيرُ الدينِ هدايا السلطانِ سليمٍ باحترامٍ، ثمّ جمعَ ديوانَهُ والأهالي وأعلنَ تبعيّتَهُ رسمياً للدولةِ العثمانيةِ.[91] حلَّ السلطانُ مسألةَ الحاجةِ للسلاحِ، فأرسلَ له ستةَ آلافِ جنديٍّ منهم ألفَيْ اإنكشاريٍّ مسلحينَ بالبنادقِ وعدداً من المدافعِ مع سَدَنَتِها، وعدداً آخرَ من المتطوِّعَةِ، وأعلنتْ الدولةُ تأمينَ نفقاتِ السفرِ للمتطوعةِ الراغبينَ بالذهابِ إلى الجزائرِ للجهادِ، ووعدتهم بالامتيازاتِ التي يحصلُ عليها الإنكشارية.[92] تذكر مراجع أخر عدد الجنود والمتطوعة الذين أرسلهم السلطان أربعة آلاف.[93][94][95]
يذكرُ المؤرخونَ أنّ خيرَ الدينِ اتّصَفَ بالحنكةِ السياسيةِ فضلاً عنِ الشجاعةِ والإقدامِِ، فحسنُ تقديرِهِ ورباطةِ جأشِهِ قِبَلَ الأزمات مكنّتاهُ من تحقيقِ أعمالٍ لمْ يُحققْها عُرُوجُ، فلمْ يكُ يُعرِّضُ نفسَهُ للمخاطرَ إلاّ بعدَ درسِها والتمعّنِ فيها وبالحدودِ التي تُرهبُ أعداءَهُ، ولايُقدمُ على أيِّ عملٍ قبلَ أنْ يدركَ أبعادَه ومحصلةََ نتائجِهِ، وكانَ ينْأى بنفسِهِ عن أيِّ خطرٍ لا طائلَ منه، في الوقتِ ذاتِهِ كانَ إذا اتّخذَ قراراً ما عملَ على إنجازِهِ كاملاً فلمْ يعتدْ أنْ يُفرِّطَ في أمرٍ طالما اعتقدَ ضرورتَهُ وفوائدَهُ، وحينما يعزمُ على تنفيذِ خطةٍ أو توجيهِ ضربةٍ فقلّما يستطيعُ أحدٌ آخرُ إدارتَها مثلَه.[96]
قيام ثورة الأهالي وإخمادها[عدل]
يذكرُ المؤرخانِ «عزيز سامح التر» و«مبارك الميلي» أنَّ أهاليَ الجزائرِ حينَما لَمَسُوا أنَّ الأتراكَ يسعَوْنَ جادِّينَ إلى تثبيتِ وجودِهم تآمرُوا تأليباً منَ القبائلِ المجاورةِ على سحقِهم في يومِ البازارِ (سوقُ البيعِ). فدخلتْ القبائلُ التي تقطنُ السهولَ المجاورةَ مدينةَ الجزائرِ خفيةً معَ أسلحتهم، وقضتِ المؤامرةِ بذهابِ قسمٍ منهمْ إلى الساحلِ حيثُ ترسو سفنِ الأتراك لحرقِها، وحينما يشاهدُ البحّارة النارَ تشتعلُ في سفنِهم سيُهْرعُون لإخمادِها، وحالما يخرجُون من المدينةِ يقومُ الأهالي بإغلاقِ بوّاباتها ويهاجمُون لقتلِ منْ تبقّى منهم، لأنَّ أعدادَهم ستكونُ قليلةً عندئذٍ، وبذا يتخلّصُون من الأتراكِ، لكنَّ جواسيسَ خيرِ الدينِ أفْشَوْا إليه بالمؤامرةِ، فألقَى القبضَ على المخططينَ، وقطعَ رؤوسَهُم وعلّقَها على بابِ القصرِ بعدما مثّلَ بجثثِهم، فخمدتْ ثورةُ الأهالي، وباتوا يحسِبُونَ حسابَ أيِّ تمردٍ منْ بعدُ.[97][98]
الهجوم الإسباني على الجزائر[عدل]
«لم يكنِ الوقتُ وقتَ إظهارِ الخَوَرِ والضعفِ بل لمْ يكنْ لنا وقتٌ للبكاء، فنحنُ في إفريقيا لسنا سوى حفنةٍ من الأتراكِ يمكنُ القضاءُ علينا في رمشةِ عين... لقد قضيتُ ذلكَ الشتاءِ في الاستعدادِ ولم أكنْ أُعطي لنفسي لحظةَ فراغٍ لكي لاأجدَ وقتاً للتفكيرِ في أخي»
-من مذكراتِ خيرِ الدينِ عقب استشهادِ عُرُوجَ[99]-
يذكرُ خيرُ الدينِ في مذكّراتِهِ أنّه عندما وصلَهُ نبأُ استشهادِ أخيه عُرُوجَ قررَ أنْ يعيشَ لغايةٍ واحدةٍ هي المضيُّ في الطريقِ الذي سلكهُ أخوهُ، وتتمثلُ تلك الغايةُ في التضييقِ على الأوروپيينَ في إفريقيا والبحرِ الأبيضِ المتوسطِ، فاتّخذَ العديدَ منَ الاحتياطاتِ والتدابيرَ، وقضى ذلكَ الشتاءَ في الاستعدادِ، فقامَ بإصلاحِ سفنهِ ومدافعِهِ ومعداتهِ وتجديدِها. يُذكرُ أنَّ مبعوثَ الإمبراطورِ شارلكانَ (كارلوسَ الخامسَ) جاءَهُ قائلاً:
«لقد ماتَ أخوكَ وقُتِلَ أكثرُ جنودِه فكُسِر جناحُكَ. منْ تحسبُ نفسَكَ حتى تقفَ في وجهِ أقوى ملكٍ مسيحيٍّ بدونِ أخيك؟ ماذا يمكنكَ أنْ تفعل؟ خذْ سفنكَ ورجالَكَ واخرجْ منَ الجزائرِ فوراً، وإيَّاكَ وأنْ تطأ قدماكَ إفريقيا مرةً أخرى. إنَّ هذا آخرُ إنذارٍ أوجّهُهُ إليكَ، سوفَ أملأُ البحرَ بالسفنِ وأعودُ إلى الجزائرِ قريباً، فإذا تمكّنْتُ منكَ هناكَ، فَلْتَعْلَمْ بأنَّ عاقبتَكَ ستكونُ وخيمة».
في ذاكَ الوقتِ كانَ خيرُ الدينِ يُعرفُ في أوروپا باسمِ «ملك الجزائرِ» ويشغلُ منصبَ بَيْلَرْبَايْ لدى الدولةِ العثمانيةِ ورأى أنَّ مخاطبةَ شارلكانَ له بهذا الاستخفافِ تستلزمُ منه موقفاً، فكتبَ لهُ جواباً شديدَ اللهجةِ، فلمّا تسلّمَ شارلكانُ ردَّه أرسلَ أساطيلَ سدّتِ الأفقَ اشتركَ بها أمراءٌ تابعونَ له من نابولي وصقليّةَ وألمانيا والأراضِي المُنخفِضَةَِ. رستْ سفنُهُمْ قُبالَةَ الجزائرِ. كانَ خيرُ الدينِ مستعدّاً جيِّداً إذْ توقّعَ ردةَ فِعلِهِ وأرادَ تلقينَه درساً، فماإنْ أنزلُوا قواتِهِمْ إلى البرِّ حتى فاجأهُم وجنودَهُ بهجومٍ أدّى إلى مقتلةٍ كبيرةٍ فيما استسلمَ سبعمئةٍ إلى ثمانمئةٍ منهُم من أصلِ عشرين ألفاً، أمّا الباقونَ فلاذُوا بالفرارِ إلى سُفنِهِمْ، وعادَ قادةُ شارلكانَ يجرّون أذيالَ الخيبة.[100]
تذكرُ بعضُ المراجعِ هذهِ المعركةَ برواياتٍ مُسْهَبَةٍ عن روايةِ خيرِ الدينِ السالفةِ في مذكراتِهِ والذي لم يُفصّلْ في أحداثِها. يذكرُ المؤرخان «أحمدُ توفيقٍ المدنيّ» و«عزيزُ سامحٍ ألتر» أنَ الإسبانَ لم يحتمِلُوا ما أصابَهُم من هزيمةٍ عند أسوارٍ الجزائر السنةَ الماضيةَ على يدِ عُرُوجَ فشرَعُوا يستعدُّونَ للثأرِ، وزادَهم هلعَاً إعلانُ انضمامِ الجزائرِ للدولةِ العثمانيةِ ومن ثَمَّ وصولُ الخطرِ العثمانيَِ إلى الحوضِ الغربيِّ من المتوسطِ الذي كانَ تحتَ السيطرةِ الإسبانيةِ تماماً -فقد كانَ الإمبراطورِ الرومانيِّ المقدسِ شارلكانَ ملكاً على مملكتَيْ ناپولي وصقليّةَ فضلاً عن إسبانيا وكانتْ أهمُّ المدنِ الساحليةِ الجزائريّةِ من ضمنِ ممتلكاتِه-. انتهزَ الإسبانُ مقتلَ عُرُوجَ، وانتصارَهم في تِلِمْسانَ، وما أحدثاه من حزنٍ وأسىً، فاتفقُوا مع أبي حمو صاحبِ تِلِمْسانَ على التخلصِ من خيرِ الدينِ ودولتِهِ الناشئةِ، وذلك بأنْ يهاجمُوا بحراً في الوقتِ الذي يتقدَّمُ فيه نحوَها من البرِّ جيشُ أبي حمو. شملتِ الحملةُ الإسبانيةُ أربعينَ سفينةً كبيرةً تُقلُّ خمسةَ آلافِ مقاتلٍ. وصلَ الإسبانُ الجزائرَ يومَ 19 شعبان 925هـ الموافقِ ل17 أغسطس/آب 1519م، واختارُوا الساحلَ الممتدَّ يسارَ وادي الحراشِ ميداناً لإبرارِهِمْ. كانتْ خطةُ خيرِ الدينِ تجعلُ المعركةَ تكادُ تكونُ طبقَ الأصلِ لمعركةِ السنةِ الماضيةِ؛ أيْ تركُ الجيشِ الإسبانيِّ ينزلُ إلى البرِّ في النقطةِ التي يختارُ فيضعُ سلاحَه وعتادَه، ثمَّ مناوَشَتُهُ في كمينٍ محاولةً للإحاطةِ به من كلِّ جهةٍ حتى يُنْهِكَهُ التعبُ قبلَ الالتحامِِ بهِ في معركةٍ فاصلةٍ في الساعةِ التي يرتئِي، وهكذا كان.
أنزلَ الإسبانُ جندَهُم وعتادَهُم ومن خلفِهِم وادي الحراشِ جنوبَ شرقِ مدينةِ الجزائرِ بعدَ مناوشاتٍ يسيرةٍ، ولم يكُ بخَلَدِ خيرِ الدينِ النقطةُ التي سيركِّزُونَ هجومَهُم عليها إلى أن تحرّكَ الجيشُ بكاملِ قوّاتِه ليرْقَى صُعُداً المرتفعاتِ المحيطةِ بمدينةِ الجزائرِ فوصلُوا «كديةَ الصابونِ» المشرفةَ على المدينةِ من الجنوبِ، وأخذُوا بسرعةٍ ببناءِ قلعةٍ فوق الكديةِ دعَوْها «قلعةَ الإمبراطورِ»، وجهّزُوها بالمدافعِ الثقيلةِ لوضعِ الجزائرِ تحتَ تهديدِ نيرانِهم غيرَ أنَّ مهارةَ خيرِ الدينِ وتكتيكاتِهِ الحربيةِ -حسبَ المؤرخينَ- لم تُمكّنْهُم، فلم تُصِبْ مدافعُهُم إلا الأسوارَ الخلفيةَ دونما ضررٍ كبيرٍ. ومع انشغالِ الإسبانِ ببناءِ القلعةِ كانُوا يترقّبُونَ الجيشَ الزيّاني التِلِمْسانيَّ وكانَ طرفاً أساسيّاً في المعركةِ المقبلةِ، لكنَّ انتظارَهم دامَ ستةَ أيامٍ وتمَّ بناءُ القلعةِ، وأرهقتِ المناوشاتُ الجيشَ الإسبانيَّ، ولم يظهرْ أثرٌ لجيشِ بني زيّانَ فقرّرتِ القيادةُ الإسبانيةُ المبادرةَ بالهجومِ. خلالَ يومينِ بدتِ علاماتُ الإعياءِ والإنهاكِ على الإسبانِ، فبدؤوا بالانسحابِ، وفي اليومِ الثالثِ شنَّ خيرُ الدينِ بفرقةٍ من خمسمئةِ مقاتلٍ هجوماً من خلفٍ على معسكرِ الإسبانِ لتدميرِهِ وحرقِ قواربِهم، خُدعَ الإسبانُ بحركةِ الالتفافِ هذهِ فهُرعُوا نحوَها تاركينَ مواقعَهُمُ الدّفاعيةَ، فاغتنمتْ قواتُ خيرِ الدينِ الفرصةَ، وانقضّتْ بكلِّ قوتِها مُحدِثَةً خللاً وإرباكاً في صفوفِ الإسبانِ ممّا اضطرَّ بعضَهُم لتسليمِ نفسِهِ دونما قتالٍ، وغدتِ القواتَ الإسبانيةُ وسطَ ذهولٍ كبيرٍ محاصرةً من البرِّ وليس أمامها سوى البحرِ، فاندفعتْ نحوَه مخلّفةً عتادَها في ساحِ القتالِ. في هذا الوقتِ ثارَ البحرُ واشتدَّ هيجانُهُ ما جعلَ اقترابَ السفنِ الإسبانيَّةِ من الساحلِ خطِراً وغيرَ متاحٍ، فلمْ يستطعِ الوصولَ إليها من الجندِ إلا القليلُ وبقيَ معظمُ الجيشِ على الساحلِ فقتلَ من قُتِلَ، وغرقَ حوالَيْ أربعةِ آلافٍ، واستسلمَ ما يزيدُ على ثلاثةِ آلافٍ قُتِلُوا أيضاً -يذكرُ بعضُ المؤرخينَ أنَّ قتلَهُم كانَ انتقاماً لمقتلِ إسحاقَ بنِ يعقوبَ أخي خيرِ الدينِ الأكبرِ الذي قُتلَ بعدَ استسلامِه-. انتهتِ المعركةُ في 26 شعبان 925هـ الموافقِ ل24 أغسطس/آب 1519م أيْ إنّها دامتْ ثمانيةَ أيامٍ، ويُذكَرُ أيضاً أنَّ أربعةً وعشرينَ سفينةً من الأسطولِ الإسبانيِّ جرفتْها الأمواجُ إلى الساحلِ بكلِّ ما فيها.[101][102]
يذكرُ «عزيزُ سامح ألتر» أن خيرَ الدينِ في ربيعِ سنةِ 927هـ/1520م أرسلَ قوةً إلى تنسَ لإعادتِها إلى نفوذِهِ، فطلبَ صاحبُها النجدةَ من الإسبانِ، فقدمتْ خمسَ عشرةَ سفينةً لمساندتِهِ، ولكنَّ خيرَ الدينِ أرسلَ ثمانيَ عشرةَ سفينةً دعماً للقوةِ التي أرسلَها وقادَ بنفسِهِ عمارةً بحريةً أخرى، وتوجّهَ مباشرةً إلى تنسَ وضمَّ قلعتَها، وغنِمَ خمسَ سفنٍ إسبانيةِ، وعادِ بعدَها إلى الجزائر.[103]
صراع الزيانيين على تلمسان[عدل]
أوردَ خيرُ الدينِ في مذكّراتِهِ أنَّ أحدَ أمراءِ بني زيَّانَ وهو «الأميرُ مسعودٍ» قدِمَ إليهِ طالباً مساندتّهُ ضدَّ أخيهِ الأكبرِ «مولاي عبدَ اللهِ»، فقامَ بإرسالِ قوةٍ من ثلاثةِ آلافِ فارسٍ وألفِ راجلٍ معه. وكانَ السببُ حسْبَما ذكرَ علمَهُ من جواسيسِهِ أنّ صاحبَ تِلِمْسان «مولاي عبدَ اللهِ» بدأ يُثيرُ النّاسَ ضدّهُ ويتكلمُ عنه بسوء. ماإنْ علمَ مولاي عبدَ اللهِ بقواتِ خيرِ الدينِ حتى لاذَ بالفرارِ إلى وهرانَ مستغيثاً بالإسبانِ، أمّا مسعودُ فحقّقَ انتصاراً بارداً دونما قطرةِ دمٍٍ، ودخلَ تِلِمْسانَ وتربّعَ على عرشِهَا. وكافَأ جندَ خيرِ الدينِ والمتطوعينَ العربَ ممّنْ شاركَ معهُ، وبعثَ لخيرِ الدينِ خمسينَ ألفاً قيمةَ الخراجِ السنويِّ إضافةً لعددٍ كبيرٍ من الهدايا، وكتبَ خيرُ الدينِ خطاباً له جاءَ فيهِ: «الآنَ بفضلِ سلطانِنا جلستَ على عرشِ أجدادِك، فاحذرْ ممّا كانَ سبباً في حرمانِ أخيك من عرشهِ، وإيّاكَ وظلمَ المسلمينَ، ولاتخالفْ أوامري قيدَ أُنْمُلَةٍ، ولاتتأخرْ عن دفعِ الخراجِ السنويّ يوماً واحداً، ولاأسمعُ عنك أنّك أقمْتَ أيّ علاقةٍ بالإسبان، فهُمْ سوفَ يقضونَ عليكَ عندما يتمكّنُونَ منك. وتذكرْ بأنَّ أخوَيْك الكبيرينِ في وهرانَ لاجئيْنِ عندَ الإسبانِ. وإذا كنتَ لاتريدُ أنْ ترى أحداً منهُما جالساً على عرشِك فخذْ ما يلزمُ من تدابيرَ لحمايةِ نفسِكَ وعرشك».[104]
لكنَّ مسعوداً كما يذكرُ خيرُ الدينِ ماإنْ جلسَ على العرشِ حتى شرعَ في ظلمِ الناسِ ونهْبِ أموالِهم بغيرِ حقٍّ، ومزّقَ كتابَ خيرِ الدينِ بعدَ قراءَتِه، فسمعَ أخوهُ اللاجئُ لوهرانَ بفعلِه فاتّصلَ بخيرِ الدينِ طالباً المساعدةَ واعداً بأنْ يكونَ طوعَ أمرِهِ، فانتهزَها خيرُ الدينِ فرصةً فعفا عنه فيما كانَ راسياً في مستغانمَ القريبةِ من وهرانَ والتي فتحَها بدونِ عناءٍ وكانتْ بيدِ الإسبانِ، فقدمَ إليهِ «الأميرُ عبدِ اللهِ الزيّاني»، وأرسلَ معهُ ألفاً من رجالِهِ إلى تِلِمْسانَ. في الوقتِ نفسِهِ كانَ خيرُ الدينِ منشغلاً بإسكانِ ألفيْنِ ومئتيْنِ وخمسةٍ وثمانينَ مهاجراً موريسكياً في نواحي مستغانمَ كانَ حملَهُم على سفنِهِ من الأندلسِ، فوهبَهُم أراضيَ لاستصلاحِها والعملِ بها.
وصلَ «الأميرُ عبدُ اللهِ الزيّاني» إلى تِلِمْسانَ، وتربّعَ حاكماً عليها فيما تحصّنَ أخوه «مسعودٌ» بالقلعةِ خمسةً وعشرينَ يوماً. فلجأ البحّارةُ الذين أرسلَهُم خيرُ الدينِ عوناً لعبدِ اللهِ لخدعةٍ حربيةٍ لعدمِ امتلاكِهِم المدافعَ إذْ رفعُوا الحصارَ وتظاهرُوا بالفرارِ، فلمّا شاعَ بينَ أنصارِ مسعودٍ فرارُهم دفعَهُم الاستيلاءُ على الغنائمِ لتعقّبِهِم، فارتدَّ البحّارةُ إليهِم واستوْلَوا على القلعةِ وسلّمُوها للأميرِ عبدِ الله. عقبَ سقوطِ القلعةِ فرَّ مسعودٌ مع خمسةٍ أو عشرةٍ من رجالِهِ دونَ معرفةِ مصيرِهم متخلياً عن ستةِ آلافٍ من المقاتلينَ البدوِ الذين تحصّنَ بهم في القلعةِ وهربَ منها دونَ إخبارِهِم حتى إنَّهُم استمرُّوا بقتالِ بحّارةِ خيرِ الدينِ وهم لايعلمونَ أنَّ أميرَهم هرب، حتى إذا علمُوا أعلنُوا استسلامَهُم. في معركةِ تِلِمْسانَ هذهِ قامَ بحّارةُ خيرِ الدينِ بقتلِ خمسةِ آلافِ بدويِّ وعفا عمّن ألقى سلاحَه واستسلم. وويومَ الجمعةِ قُرِئَتْ الخطبةُ باسمِ السلطانِ العثمانيِّ سليمٍ الأولِ دلالةَ التّبعيّة. وبعدَ ذلكَ غادرَ البحّارةُ وقدْ تركُوا مئةً منهم بطلبٍ من السلطان.[105]
أسر سلطان تونس والعفو عنه[عدل]
يذكرُ خيرُ الدينِ في مذكراتِهِ أنَّه منذُ استقرارِهِ في الجزائرِ كانَ مضْطرّاً للانشغالِ بالأمراءِ المحليِّينَ وأشباهِهِم في الجزائرِ وتونسَ والمغربِ الذين اسْتاؤوا من وجودِ الأتراكِ في الشمالِ الإفريقيِّ. فشرعَ الملوكُ والأمراءُ في تونسَ وتِلِمْسانَ بالتحالفِ معَ الإسبانِ وحبكِ المؤامراتِ ضدَّهُم سراً وعلانيةً، ويذكرُ أنَّ سببَ ذلكَ يعودُ إلى أنَّ سلطانَ تونسَ كانَ مُتَوَجِّساً منهم قبلَ الانضواءِ تحتَ رايةِ العثمانيّينَ، وكانَ يشكُّ أنَّ السلطانَ سليماً الأولَ يرغبُ بضمِّ تونسَ، وهكذا ازدادتْ الفجوةُ بينَ خيرِ الدينِ وأبي عبدِ اللهِ محمدٍ المتوكِّلِ سلطانِ تونسَ. وزادَ البوْنُ اتِّساعاً عندما وقعتْ بيدِ خيرِ الدينِ رسالةٌ أرسلَها الحفصيُّ لصاحبِ تِلِمْسانَ الزيَّانيِّ وفيها ما ملخَّصُهُ: «إنَّ هذا خيرُ الدينِ قَوِيٌّ جداً، بلْ هوَ أشدُّ بلاءً من أخيهِ عُرُوجَ. هاهوَ الآنَ قدْ استندَ إلى السلطانِ سليمٍ خانْ، ولذلكَ فلا حدَّ لغرورِهِ. لقدْ وضعَ في ذهنِهِ التطلّعَ لدولةِ عالميةِ تشملُ حتى إسبانيا. إنَّ السلطانَ سليماً يظنُّ أنَّ خيرَ الدينِ رجلُ دولةٍ حقاً، فجعلَهُ بايلربياً وباشا، وقلَّدَهُ السيفَ المُرَصَّعَ والخلْعَةَ والسنجقَ السلطانيَّ، وسمحَ لهُ أنْ يجمعَ من الأناضولِ ما يحتاجُ إليْهِ منَ الرجالِ والسلاحِ وغيره منَ التجهيزاتِ العسكريَّةِ. الأحوطُ لنَا هوَ أنْ نكونَ معاً يداً واحدةً، فلاندعْ أيَّ تركيٍّ في إفريقيا، فهمْ عشرُ سنواتٍ منْ دخولِهِم شمالَ إفريقيا صارُوا أسياداً عليْنا».
ويذكرُ خيرُ الدينِ في مذكراتِهِ أنَّ بعضَ القبائلِ استجابتْ لتحريضِ سلطانِ تونسَ، فأرسلَ إليْهَا قوةً مكوّنَةً منْ ستةِ آلافِ راجلٍ وستةِ آلافِ فارسٍ وأدّبَهَا.[106]
بعدما فرغَ خيرُ الدينِ من أمرِ تِلِمْسان وجَهَ حهدَهُ لحلَّ مسألةِ «أحمدِ بنِ القاضي» الذي أوجزَ خيرُ الدينِ في مذكّراتِهِ الحديثَ عنهُ فذكرَ أنَّ والدَهُ أحدُ عظماءِ العربِ في الجزائرِ، وأنَّهُ كانَ يُكِنُّ لهُ قدْراً كبيراً من الصِّدْقِ والمودَّة. وقدْ حاولَ سلطانُ تونسَ الحفصيِّ تحريضَهُ على الخروجِ على خيرِ الدينِ إلا أنَّهُ لمْ يوافِقْهُ، وبعدَ وفاتِهِ حلَّ محلَّهُ ابنُهُ «أحمدُ» الذي كانَ أولُّ ما قامَ بهِ أنِ اتّفَقَ معَ سلطانِ تونسَ على إخراجِ الأتراكِ منْ بلادِ العربِ، ويذكرُ خيرُ الدينِ رسالةً بعثَهَا أحمدُ بنِ القاضي إلى سلطانِ تونسَ الحفصيِّ قبلَ وفاةِ والدهِ بشهرَيْنِ وقعتْ بيدِهِ وجاءَ فيها: «لِنَكُنْ أنا وإيَّاكَ يداً واحدةً لاستئصالِ شأفةِ الأتراكِ، ونطردَ خيرَ الدينِ منَ الجزائرِ، فأكونُ أنا سلطاناً عليها في مكانِهِ، وقتَهَا سوفَ أُغْدِقُ عليْكَ أموالاً طائلةً، لقدْ كانَ والدي يحبُّ الأتراكَ كثيراً، أمّا أنا فلايوجدُ قومٌ أبغضَ إليَّ منهُم». وعندَ وقوعِ هذهِ الرسالةِ بيدِ خيرِ الدينِ خرجَ لحربِ سلطانُ تونسَ باثْنَيْ عشرَ ألفاً من رجالِهِ، ونزلَ بأحدِ السهولِ، وعندما رآهُ سلطانُ تونسَ الحفصيِّ «أبو عبدِ اللهِ محمدٌ المتوكِّلُ» من بعيدٍ ظنَّ أنَّهُ حليفُهُ ابنُ القاضي، فباغتَهُ خيرُ الدينِ بوابلٍ من القذائفِ جعلتْ قواتِهِ تتشتّتُ، ووقعَ السلطانُ في الأسرِ، ويذكرُ خيرُ الدينِ أنَّهُ قامَ بنصْحِهِ وحذَّرَهُ منْ تكرارِ فعلتِهِ، ثمَّ أمرَ بإطلاقِ سراحِه. وفي هذهِ المعركةِ استوْلَى جيشُ خيرِ الدينِ على ثلاثمئةِ خيمةٍ أمرَ بإرسالِهَا إلى الجزائرِ بينما أقامَ في تلكَ المنطقةِ خمسةَ أيامٍ أو عشرة.[107]
ثورة ابن القاضي[عدل]
أوردَ خيرُ الدينِ في مذكِّراتِهِ أنَّه بعدَ انتهائِهِ من الحربِ معَ السلطانِ الحفصيِّ أمرَ بالعودةِ إلى الجزائرِ، وفي طريقِهِ استطاعَ «أحمدُ ابنِ القاضي» اعتراضَهُ حيثُ كَمَنَ لهُ في مكانٍ ضيِّقٍ فأدهشَ هذا خيرَ الدينِ، ووقعت بينَهُم معركةٌ دامتْ ثلاثَ ساعاتٍ ونصفَ الساعةِ تمكَّنَ فيها سبعمئةٍ وخمسونَ بحَّاراً مِن تجاوزِ الكمينِ واستطاعَ خيرُ الدينِ وجيشُهُ الوصولَ إلى الجزائر. بدأت حركاتُ العصيانِ تتوالدُ، وعمِلَ «ابنُ القاضي» على جمعِ عددٍ كبيرٍ من الأهلينَ حولَهُ، وغدا يراسلُ النواحيَ كافَّةً داعياً لتمردِ على حكمِ الأتراكِ، وكانَ ممَّنْ استجابَ لدعوتِهِ أحدُ بحَّارةِ خيرِ الدينِ ويُدْعى «قَرَه حَسَن» طمِعَ في أخذِ مكانِهِ والانقلابِ عليه فراسلَ «ابنَ القاضي»، وماإِنْ علِمَ خيرُ الدينِ بذلكَ حتى قامَ بطردِهِ. استطاعَ «ابنُ القاضي» نهايةَ الأمرِ جمعَ جيشٍ قَوَامُهُ أربعونَ ألفَ رجلٍ، وفي الوقتِ نفسِهِ كانَ خيرُ الدينِ مستعدَّاً إذْ كانتْ تبلُغُهُ أخبارُ «ابنِ القاضي» عن طريقِ جواسيسِهِ، فقامَ بإرسالِ عشرةِ آلافِ بحّارٍ للتصدِّي للثائرينَ، واشتبكُوا معهُم في معركةٍ كبيرةٍ فقدَ فيها خيرُ الدينِ ألفَيْ بحارٍ وسقطَ لهُ ألفا جريحٍ، ولكنَّ المعركةَ انتهتْ بالقضاءِ على العصاةِ عنْ بكرةِ أبيهِمْ، ولمْ ينْجُ منهُمْ سوى سبعمئةٍ، والبقيَّةُ بينَ قتيلٍ أو أسيرٍ، وجمعَ مئةً وخمسةً وثمانين من قادةِ التمردِ مقيَّدِي الأيْدِي، وجمعَ علماءِ الجزائرِ طالباً منهُمُ الحكمَ الشرعِيَّ فيهِم، فأخبرُوه بأنَّ حكمَهُمُ الموتُ لخروجِهِمْ عليهِ، غير أنَّ بينَهُم كثيراً مِمَّنْ تصَدَّوا للإسبانِ فإنْ كانَ ثمَّةَ مجالٌ للعفوِ فلْيَعْفُ عنهُم. ثمَّ سألَ رؤساءَ البحَّارةِ فأجابَهُ أحدُهم بأنَّ الوقتَ ليسَ وقتُ العفوِ والتّلَطُّفِ وأنَّه يجبُ قتلُهُم ليكُونُوا عبرةً لغيْرِهِم. فتَرَجَّحَ لخيرِ الدينِ قولُ البحّارِ وأمرَ بضربِ أعناقِهِم.[108]
تبعات الثورة وانتقاله إلى جيجل[عدل]
أشارَ خيرُ الدينِ في مذكراتِهِ أنَّ أهالي مدينةِ الجزائرِ لم يكونُوا راغبينَ بحكمِ الأتراكِ، بلْ كانُوا غيرَ سُعَداءٍ بوجودِهِم، ولِذا فَكَّرَ في الانسحابِ منها ليعرفَ أهلُها قيمتَهُ على حدِّ تعبيرِهِ، وذكرَ أيضاً أنَّ انسحابَهُ سيلْحِقُ أضراراً بالغةً بالحركةِ التجاريَّةِ في البلادِ، وأنَّ السّكانَ لنْ يستطيعُوا إدارةَ الجزائرِ فضلاً عنِ التصدّي للإسبان، ثمَّ سيرجعُون إليهِ كرَّةً أخرى طالبينَ منهُ العودةَ للمدينةِ، ومَكَثَ فترةً يُقلِّبُ الأمرَ من جميعِ أوجُهِهِ حتى قرَّرَ يوماً أنْ يحملَ بحّارتَهُ وعائلاتِهِم وأموالَهُم في السفنِ الخمسةِ والعشرينَ الراسيةِ في الميناءِ، وأرسلَ إلى بقيَّةِ السفنِ التي خرجتْ للغزوِ أو كانتْ في عَرْضِ البحرِ أنْ تتَّجِهَ إلى جيجلَ بدلاً منَ الجزائرِ، ويذكرُ أنَّ أهالي المدينةِ تدفَّقُوا إلى المَرْسَى بعدما علِمُوا برحيلِهِم عن الجزائرِ، وأرسلُوا وفداً كبيراً من العلماءِ إلى سفينتِهِ طالبينَ صرفَ النظرِ عنِ الارتحالِ لكنَّهُ صمَّمَ على رَأيِهِ، وذكرَ أيضاً أنَّ أحمدَ بنَ القاضي أصيبَ بالذُّعْرِ فكتبَ إليهِ يعتذرُ عنْ عصيانِهِ غيرَ أنَّ خيرَ الدينِ لمْ يقبلِ اعتذارَهُ ومَضى في طريقِه. وصلَ جيجلَ -أولُ مدينةٍ يفتحُهَا هوَ وأخوه عُرُوجُ- بعدَ رحلةِ يومٍ كاملٍ، ويذكرُ أنَّ الأهالي أقامُوا احتفالاً كبيراً لمَّا علِمُوا بمَقْدَمِهِم، لأنَّ الغنائِمَ التي كانتْ تتدفَّقُ على مدينةِ الجزائرِ ستتدفَّقُ الآنَ على جيجلَ، وفي اليومِ التالي وصلَ جيجلَ شيوخُ القبائلِ وأعيانُهَا من الجزائرِ وحتى منْ تونسَ وأعلنُوا خضوعَهُم للعثمانيّينَ. ودفعُوا الخَراجَ السنويَّ وأعْلَمُوا خيرَ الدينِ بأنَّهُم حاضرُونَ لإمدادِهِ بما يحتاجُ منْ رجال.
على عادتِهِ لمْ يُطِلْ خيرُ الدينِ المكوثَ في جيجلَ بلْ عجَّّلَ وبحّارَتََهُ بالإبحارِ، فأغارُوا على بلرمَ عاصمةِ صِقِلِّيَةَ وقصفوُها، واستَوْلَوا على تسعِ قطعٍ بحريَّةٍ كانتْ تحوي أربعينَ مخزناً مشحوناً بالقمحِ وزيتِ الزيتونِ والخبزِ الجافِّ والألواحِ والفولِ والأرُّزِّ والقهوةِ والقماشِ والرصاصِ. ثمَّ إنَّ خيرَ الدينِ أقامَ في جيجلَ عدداً من الثكناتِ والمنازلَ، وقامَ ببيعِ ستَّةٍ وثلاثينَ ألفَ كَيْلِ قمحٍ بأسعارٍ رخيصةٍ للخبَّازِينَ. كما أقامَ حوضَ بناءِ سفنٍ صغيراً. وفي الصيفِ نفسِهِ أرسلَ سفنَهُ للغزوِ ثانيةً، فاتَّجَهَتْ إلى خليجِ البندقيَّةِ واستولتْ على ثلاثِ سُفُنٍ تحملُ كلٌّ منها عشرةَ آلافِ دوقةٍ ذهبيَّةٍ فضلاً عنِ المئاتِ منَ الأسرى منْ بينهِم ستونَ أسيراً مسلماً أطلقَ سراحَهُم فوراً، وفي اليومِ الرابعِ والعشرينَ منَ الإبحارِ رستِ السفنُ في جيجلَ، فأمرَ بتوزيعِ حمولةِ إحدى السفنِ على الفقراءِ وبيعتْ حمولةُ البقيَّةِ، وقامَ بتوزيعِ حصصِ البحّارةِ عليهم. في الربيعِ التالي خرجَ في خمسَ عشرةَ سفينةً فدخلَ أولاً خليجَ جنوا ومكث أربعةَ عشرَ يوماً يُغيرُ على سواحِلِها مستولياً على إحدى وعشرينَ سفينةً بعثَ بهَا إلى جيجلَ. اجتازَ بعدَ ذلكَ «مضيقَ مسينا» ودخلَ خليجَ البندقيةِ (الأرجحُ خليجُ أوترانتَ) وثمَّةَ الْتقى بصديقِهِ «سنانِ ريِّس» وسفنِهِ فرجعَ معَهُ إلى جيجلَ وفي طريقِهِم استوْلَوا على تسعِ قطعٍ بحريَّةٍ أخرى.[109]
تذكرُ بعضُ المراجعِ سببَ انتقالِ خيرِ الدينِ منَ الجزائرِ إلى جيجلَ برواياتٍ مختلفةٍ قليلاً، فيذكرُ المؤرخُ «أحمدُ بنُ أبي الضيَّافِ» في كتابِهِ «إتحافُ أهلِ الزمانِ بأخبارِ ملوكِ تونسَ وعهدِ الأمانِ» أنَّ السلطانَ الحفصيَّ أبا عبدِ اللهِ محمداً المتوكِّلَ داخلَتْهُ الغيرةُ منْ خيرِ الدينِ بعدَ انتصارِهِ في معركتِهِ الأخيرةِ على الإسبانِ، واشتدَّ حذرُهُ منهُ وتحقَّقَ أنَّهُ إذا ماوصلَ يدَهُ بالدولةِ العثمانيةِ سَهُلَ عليهِ الاستيلاءُ على الدولةِ الحفصيَّةِ، وندِمَ على إضاعةِ الحزمِ، فركبَ متنَ الفسادِ والفتنةِ بينَ نوَّابِ خيرِ الدينِ، وكاتبَ صاحبَ تِلِمْسان يحذِّرُهُ منْ غائلةِ خيرِ الدين. ويذكرُ المؤرِّخُ «أحمدُ توفيقِ المدنيِّ» بعدَما اقتبسَ قولَ ابنِ أبي الضيَّافِ السابقِ أنَّ خيرَ الدينِ قسَمَ مملكتَهُ في الجزائرِ إلى قسمَيْنِ، شرقيٍّ يشمَلُ البلادَ القبائليَّةَ الجبليَّةَ منْ شرقيِّ العاصمةِ الجزائريَّةِ إلى حدودِ المملكةِ الحفصيَّةِ وعاصمتُهَا تونسَ ووضعَ على رأسِهِ أحمدَ ابنَ القاضي سلطانَ كوكو وقدْ وصفَهُ بأنَّهُ صديقَهُ ورفيقَهُ في الجهادِ على عكسِ ما يذكرُ خيرُ الدينِ منْ العداوةِ التي بينَهُمَا. أمَّا القسمُ الغربيُّ الممتَدُّ منْ مدينةِ الجزائرِ إلى حدودِ الدولةِ الزيَّانيَّةِ فوضعَ عليْهَا «السيِّدَ محمداً بنَ عليٍّ»، وظنَّ خيرُ الدينِ أنَّهُ يستطيعُ أنْ يعتمدَ على الزعيمَيْنِ المحليَّيْنِ في حكمِ البلادِ مباشرةً بيدِ أبنائِهَا، تاركاً لمدينةِ الجزائرِ السلطةَ العُلْيا ومباشرَةِ أمورِ الحربِ والسياسةِ، غيرَ أنَّ الأمراءَ المحليِّينَ والإسبانَ كانُوا لهُ بالمرصادِ، فمثلاً كانَ صاحبُ قلعةِ بني عبَّاسٍ «عبدُ العزيزِ» مُعادِياً لأحمدَ بنِ القاضي، وقدْ جعلَهُ النِّظامُ الإداريُُ الجديدُ تحتَ إمرةِ هذا الأخيرِ، وهوَ بعْدَمَا كانَ يحملُ لواءَ العصيانِ ويعلنُ الطاعةَ والولاءَ للحفصيِّينَ بتونسَ تغيَّرَ فجْأةً عندَما أعلنَ أحمدُ بنُ القاضي الثورةَ. وابنُ القاضي انفصلَ عنْ خيرِ الدينِ بعدَمَا أساءَتْ الدسائسُ للعلاقاتِ بينَهِمَا، وانصاعَ لوساوسَ محمدِ بنِ الحسنِ الملكِ الحفصيِّ معتمداً على مددِهِ ورجالِهِ، فماوَسِعَ خيرُ الدينِ إلاَّ الخروجَ لهُ ومقاتَلَتَهُ بضراوةٍ في جبالِ زواوةَ، حتى اضطَّرَهُ للالتجاءِ إلى عُنّابَةَ، ثمَّ تلقَّى ابنُ القاضي مَدَدَاً منَ السلطانِ الحفصيِّ، فعادَ للحربِ واستفزازِ سكَّانِ الجبالِ ضدَّ خيرِ الدينِ، فلمَّا ساءتْ الحالةُ قرَّرَ خيرُ الدينِ الخروجَ بنفسِهِ ثانيةً لقتالِ صديقِهِ القديمِ المُنْشَقِّ. ذكرَ المؤرِّخُ الفرنسيُّ «دي قرامون» أنَّ سلطانَ تونسَ عزمَ على إخضاعِ الجزائرِ لسلطتِهِ لأنَّ شرقيَّ الجزائرِ كانَ نظريَّاً تابعاً لدولةِ بني حفصٍ، وتآمرَ معَ ابنِ القاضي على أنْ يلتحِقَ بهِ أثناءَ اختراقِهِ بلادَ القبائِلِ، وأنْ يجتمِعَا على مقاتلَةِ خيرِ الدينِ. خرجَ خيرُ الدينِ معتَقِداً أنَّه سيردُّ غارةَ الحفصيِّينَ معتمداً على جيشِ الأتراكِ ومساندةِ جيشِ ابنِ القاضي، وماكادتِ المعركةُ تلتحِمُ في «فليسة أم الليل» حتى أدارَ جنودُ ابنِ القاضي سلاحَهُمُ ضدَّ خيرِ الدينِ والأتراكِ فوقعُوا بينَ نارَيْنِ، وقُتِلُوا عن آخِرِهِمْ تقريباً، ونجا خيرُ الدينِ بنفسِهِ وبعضِ رجالِهِ إلى جيجلَ وأرسلَ يطلبُ منَ الجزائرِ سلاحَهُ وأسطولَهُ وكنوزَهُ، ويُكْمِلُ المؤرخُ الفرنسيُّ فيقولُ إنَّ أحمدَ بنَ القاضي استمرَّ يتقدمُ في سهلِ متيجةَ شرقيَّ مدينةِ الجزائرِ حتى دخلَ الجزائرَ فسلَكَ فيها سيرةً أدْهَى وأمَرَّ منْ سيرةِ الأتراكِ.[110]
ويذكرُ المؤرخُ «عزيزُ سامحِ التر» أنَّ الأتراكَ بعدَ تمركُزِهِمُ في الجزائرِ أحسُّوا أنَّ الخطرَ سيأتيهِم منْ قِبَلِ تونسَ وتِلِمْسان لذلكَ بدأَ خيرُ الدينِ يخطِّطُ لإخضاعِهِما لسيطرتِهِ، وبما أنَّ شرقَ الجزائرِ كانَ حينها مرْتبِطَاً بتونسِ فقدِ اعْتَبَرَ سلطانُ تونُسَ خيرَ الدينِ عاصِيَاً ومغْتَصِبَاً فبدأ هوَ الآخرُ يحاولُ إعادةَ الجزائرِ إلى دائرةِ نفوذِهِ وطردِ خيرِ الدينِ منها. ويعَقِّبُ الترُ أنَّ صفاءَ قلبِ خيرِ الدينِ دفعَهُ إلى تسليمِ نصفِ البلادِ إلى أحمدَ بنِ القاضي معتقداً أنَّ ذاكَ سيساعدُ على استقرارِ الأمورِ واستتابِ الأمْنِ، لكنَّ ابنَ القاضي كانَ يُكِنُّ الحقدَ والبغضاءَ لخيرِ الدينِ فاتَّفَقَ معَ حاكمِ تونسَ وجمعَ القبائِلَ حولَهُ وحرَّضَهُم ضدَّهُ، وحينما اطْمَأنَّ إلى تأييدِهَمْ جَهّزَهُمْ بالسلاحِ، وتحرَّكَ حسْبَ الاتّفاقِ معَ الجيشِ التونسيِّ باتِّجَاهِ الجزائرِ، وأعلنتِ القبائلُ المجاورةُ لمدينةِ الجزائرِ تمرُّدَهَا، فاضْطُرَّ خيرُ الدينِ إلى تأديبِهَا، واستمرَّتْ عمليةُ التأديبِ قُرابَةَ ستَّةِ أشهرٍ، فقامَ أحمدُ بنُ القاضي بتأجيلِ الهجومِ بسببِ حلولِ الشتاءِ، وعَقَدَ صُلحاً معَ خيرِ الدينِ ثمَّ توجَّهَ إلى تونسَ، فاسْتَغَلَّ أخوه فرصةَ غيابِهِ وعقدَ تحالفاً معَ الجزائرِ بعدما أفْشَى لخيرِ الدينِ عنِ الاتفاقِ الذي عقدَهُ أخوه معَ أبي عبدِ اللهِ محمدٍ المتوكلِ حاكمِ تونسَ. ثمَّ إنَّ أحمدَ بنَ القاضي عادّ إلى تحالفِهِ معَ خيرِ الدينِ، وجهَّزَ قوّاتِهِ وانضمَّ لهُ خديعةً منهُ، وحينما كانَ خيرُ الدينِ يحاربُ القوّاتِ الحفصيَّةَ، انقلبَ ابنُ القاضي وجنودُهُ على خيرِ الدينِ وجنودِهِ، فوجدَ خيرُ الدينِ نفسَهُ بينَ نارَيْنِ، ولحِقَتْ بِهِ جرَّاءَ هذا التآمرِ خسائرُ فادحةٌ، فلمْ يَنْجُ إلاَّ هوَ وقلَّةٌ منْ رجالِه. وإثْرَ هذهِ الهزيمةِ فَقَدَ نفوذَهُ خارجَ مدينةِ الجزائرِ، وأعلنَ الجزائرِيُّونَ التمرُّدَ على الأتراكِ غير أنَّهُم لمْ يُهاجِمُوا القلعةَ التي يوجَدُون فيها، وبما أنَّ علاقةَ الأتراكِ لمْ تكُ حسنةً معَ المناطِقِ المجاورَةِ فقدْ بقَوْا بدونِ تموينِِ ومستلزماتٍ مهمَّةٍ، وغدا خيرُ الدينِ شِبْهَ مُحاصَرٍ، وبعدَ تفكيرٍ طويلٍ قرَّرَ تركَ المدينةِ والرحيلِ عنها، ولكنَّهُ تخوَّفَ منْ مهاجمَةِ أعدائِهِ لهُ عندَ تنفيذِ قرارِهِ وقيامِهِم بمنعِهِ منْ أخذِ أموالِهِ وعائلتِهِ، فتظاهرَ بتسليمِ البلادِ لقَرَه حسنٍ وكلَّفَهُ بإدارتِهَا، وبحركةٍ جماعيَّةٍ أَخْلى القصرَ، وحملَ أموالَهُ وَمَتَاعَهُ على متنِ تسعِ سفنٍ، ثمَّ نادى الأشرافَ والأعيانَ وألقى بمفاتيحِ القلعةِ لهُم وقالَ: «ليكُنْ أهالي الإسلامِ وديارُهُم أمانةً في أعناقِكُم»، ثمَّ ركِبَ سفينَتَهُ وتوجَّهَ إلى جيجلَ.[111] وقدْ أورَدَ المؤرخُ الجزائريُّ «مباركٌ الميلي» روايةَ «الترِ» نفسِهَا.[112]
عودته إلى الجزائر[عدل]
كانَ انسحابُ خيرٍ الدينٍ منَ الجزائر إلى جيجلَ سنةَ 927هـ/1520م، وبعدها دخلَ أحمدُ بنُ القاضي الجزائرِ معَ جنودِهِ، ويذكرُ المؤرِّخُونَ أنَّه ارتكبَ مظالمَ كبيرةً بحقِّ الأهالي، فغدا سكَّانُ الجزائرِ أكثرَ حُبَّاً وتقرُّبَاً منَ للأتراكِ، بالإضافةِ إلى اختلالِ النِّظامِ الأمنيِّ الذي كانَ قائماً بوجودِ الأتراكِ وتدهورِ الأوضاعِ في المدينةِ فزادَ التذمُّرُ من ابنِ القاضي. أثناءَ فترةِ انسحابِهِ عمِلَ خيرُ الدينِ على استعادةِ قوَّتِهِ القديمةِ على الرَّغمِ منْ أنَّ الدولةَ العثمانيَّةَ لمْ تقدِّمْ لهُ خلالَ هذهِ الفترةِ الحرجةِ أيَّ مساعداتٍ، وكلُّ ما أنجَزَهُ كانَ بفضلِ جهودِهِ وحسنِ إدارتِهِ وسياستِهِ للأمورِ حسبَما يذكرُ المؤرخونَ، فأسَّسَ قوةً عسكريةً جيِّدَةً منَ المتطوعينَ الذينَ انضمُّوا إليهِ منْ أهلِ البلادِ، واتَّفَقَ معَ صاحبِ قلعةِ بني عبَّاسٍ وكانَ مُعادِيَاً لابنِ القاضي، وكانتِ الوفودُ منَ الجزائرِ مافتِئَتْ تَتْرَى عليهِ تطلبُ منهُ العودة. وفي النهايةِ وبعدَ سنواتٍ خمسِ على خروجِهِ تحرَّكَ بجيشٍ عُدَّتُهُ اثنا عشرَ ألفَاً منَ المتطوِّعةِ والبحَّارَةِ منهُم أربعةُ آلافِ فارسٍ وثمانيةِ آلافِ راجلٍ وفي طريقِهِ انضمَّ لهُ آلافُ الفرسانِ منَ الأريافِ المجاورة. عندَ اقترابِ خيرِ الدينِ منَ المدينةِ تعرَّضَ لهُ بعضُ رجالِ ابنِ القاضي في معركةٍ أسفرَتْ عنْ مقتلِ ثمانمئةٍ منهم. كانَ لدى ابنِ القاضي اثنَا عشرَ ألفَ فارسٍ وثمانيةُ آلافِ راجلٍ إلاَّ أنَّهُ كانَ مشْكوكُاً بإخلاصِهِم في التّصدّي لجيشِ خيرِ الدينِ، ويالرَّغْمِ منْ ذلكَ فقدْ حاولَ المقاومةَ ما وَسِعَهُ الجهدُ، فقامَ في إحدى اللّيالي بالإغارةِ على ثلاثِ معسكراتٍ لجيشِ خيرِ الدينِ، فكانَ أنْ فقَدَ مئةً وخمسةً وثمانينَ منْ رجالِهِ وسبعةً وتسعينَ منْ خيولِهِ بينما لم يخسرْ خيرُ الدينِ أحداً منْ رجالِه، وفي الصَّبَاحِ أعادَ الهجومَ كرةً أخرى إلاَّ أنَّ رجالَهُ كانُوا يفِرُّون إلى أعالي الجبالِ كما يذكرُ خيرُ الدينِ في مذكّراتِهِ. ودامَ القتالُ على هذهِ الحالِ إلى أنْ قُتِلَ «قره حسن» -وكانَ أحدَ بحّارةِ خيرِ الدينِ انضمَّ لابنِ القاضي- فلمْ يَبْقَ لابنِ القاضي مجالٌ للنجاة. إثْرَ ذلكَ قامَ أحدُ شيوخِ العربِ بقطعِ رأسِ ابنِ القاضي وأرسلَهُ لخيرِ الدين. وبمقتلِ «قَرَه حسن» ووأحمدِ بنِ القاضي لمْ تبْقَ حاجةٌ للحربِ فقدْ شُرِعَتْ أبوابُ الجزائرِ ودروبُهَا أمامَ خيرِ الدينِ، فدخلَهَا بغيرِ مقاومة.[113][114][115]
استمرار الصراع الزياني على تلمسان[عدل]
بعدما قرَّ تِ الأوضاعُ لخيرِ الدينِ في الجزائرِ تفرَّغَ للشؤونِ الداخليةِ عامِلاً بدأبٍ على استعادةِ نفوذِهِ السابق. كان صاحبُ تِلِمْسانَ «الأميرُ عبدُ اللهِ الزيَّانيِّ» -الذي أجْلَسَهُ خيرُ الدينِ على عرشِهَا- قدِ انْتهزَ خروجَ خيرِ الدين من الجزائرِ إلى جيجلَ ليُلْغِيَ العملةَ التي كان يسُكُّهَا باسمِ السلطانِ العثمانيِّ ويقومَ بضربِ عملةٍ باسمِهِ ما دَعَا خيرَ الدينِ بعدَ إيَّابِهِ ليكتبَ لهُ بوجوبِ إعادةِ السِّكَّةِ القديمةِ، وإرسالِ الضرائبِ المتأخِّرَةِ، وهدَّدَهُ بالقتلِ إنْ لمْ يفعلْ. لكنَّ «الزيَّانيَّ» قامَ بتمزيقِ رسالةِ خيرِ الدينِ حينَمَا استلمَهَا ورمْيَهَا، فقرَّرَ خيرُ الدينِ أنْ يساندَ ابنَهُ الأميرَ «محمداً الزيَّانيَّ» -وكانَ خرجَ على أبيهِ ليخلَعَهُ ولجَأ إلى الجبالِ في ألفَيْ فارسٍ-، ولمّا سارَ خيرُ الدينِ بجيشِهِ إلى تِلِمْسانَ انضمَّ لهُ في الطريقِ الأميرُ محمدٌ معَ أتباعِه. سارَ «عبدُ اللهِ الزيَّانيُّ» من تِلِمْسانَ إليهِمُ، فالتَقُوا في مازونةَ وتمكَّنَ جيشُ خيرُ الدينِ منْ تشتيتِ قوَّاتِ عبدِ اللهِ وأسرِهِ، فأمرَ بضربِ عنقِهِ عل