الإمبراطورية البيزنطية

الإمبراطورية البيزنطية
Βασιλεία Ῥωμαίων، Ῥωμανία
الإمبراطورية الرومانية الشرقية
→
 
→
مملكة القوط الشرقيين في إيطاليا
مملكة القوط الشرقيين في إيطاليا
 
→ مملكة القوط الغربيين في جنوب شرق إسبانيا
 
→ المملكة الوندالية في شمال أفريقيا
395–1453
الإمبراطورية البيزنطية
الإمبراطورية البيزنطية
علم الإمبراطورية خلال حكم آل باليولوج
الإمبراطورية البيزنطية
الإمبراطورية البيزنطية
عقاب ذات رأسين
الإمبراطورية في أقصى اتساعها في عهد جستينيان عام 550

تغيّر مساحة الإمبراطورية البيزنطية (476–1400)
تغيّر مساحة الإمبراطورية البيزنطية (476–1400)
تغيّر مساحة الإمبراطورية البيزنطية (476–1400)
سميت باسم بيزنطة
عاصمة القسطنطينية
نظام الحكم أوتوقراطية
اللغة الرسمية
لغات محلية معترف بها السريانية، القبطية، الأرمنية، الكرجية، العربية، السلافونية الكنسية القديمة، الفهلوية.
الديانة المسيحية (تسامحت مع الديانة المسيحية بعد مرسوم ميلانو في 313 وأصبحت دين الدولة بعد 380)
الإمبراطور (قائمة الأباطرة البيزنطيين)
قسطنطين العظيم (الأوّل) 306-337
قسطنطين الحادي عشر (الأخير) 1449-1453
التشريع
السلطة التشريعية مجلس الشيوخ البيزنطي
التاريخ
الفترة التاريخية العصور القديمة المتأخرةالعصور الوسطى المتأخرة
التأسيس 17 يناير 395  تعديل قيمة خاصية (P571) في ويكي بيانات
ديوكلتيانوس يقسم الإدارة الإمبراطورية إلى شرقية وغربية 285
نقل عاصمة الإمبراطورية الرومانية إلى القسطنطينية 330
وفاة ثيودوسيوس الأول 395
خلع رومولوس أغسطولوس الإمبراطور الاسمي في الغرب، مما أنهى الانقسام الرسمي للإمبراطورية الرومانية 476
البابا ليون الثالث ومن معارضته لحكم الإمبراطورة إيرين، حاول منح السلطة الإمبراطورية للملك شارلمان 800
الانشقاق العظيم 1054
سقوط القسطنطينية بيد الحملة الصليبية الرابعة 1204
استعادة القسطنطينية 1261
فتح القسطنطينية 3 29 مايو 1453
نهاية الطربزونيين 1461
السكان
565 26,000,000 نسمة
780 7,000,000 نسمة
1025 12,000,000 نسمة
1143 10,000,000 نسمة
1282 5,000,000 نسمة
بيانات أخرى
العملة صوليدوس، هيبربيرون، بازيليكون، ستافراتون

السابق
اللاحق
الإمبراطورية الرومانية
مملكة القوط الشرقيين في إيطاليا
مملكة القوط الغربيين في جنوب شرق إسبانيا
المملكة الوندالية في شمال أفريقيا
الدولة الأموية
مملكة لومبارديا
السكلافيني
الإمبراطورية البلغارية الأولى
الإمبراطورية البلغارية الثانية
الدولة البابوية
جمهورية البندقية
جمهورية جنوة
الدول الصليبية
الدولة العثمانية
إمارة صقلية

اليوم جزء من
ملاحظات
1 القسطنطينية (330–1204 و1261–1453). عاصمة إمبراطورية نيقية وهي الإمبراطورية التي خلفت الحملة الصليبية الرابعة وكانت في مدينة نيقية أو إزنيق الحالية في تركيا.
2 يعتبر تاريخ التأسيس هو تاريخ نقل عاصمة الإمبراطورية الرومانية إلى مدينة القسطنطينية (324/330) مع استخدام التواريخ الأخرى أيضًا.[1]
3 يعتبر تاريخ السقوط عمومًا 1453 مع أن بقايا الإمبراطورية استمرّت في موريا وطربزون.
4 مصادر التعداد السكاني: [2][3]

الإمبراطورية البيزنطية أو الإمبراطورية الرومانية الشرقية أو بيزنطة دولة مسيحية امتدّت من العصور القديمة المتأخرة وحتى نهاية العصور الوسطى وتمركزت في العاصمة القسطنطينية. عرفها سكانها وجيرانها باسم الإمبراطورية الرومانية (باليونانية: Βασιλεία Ῥωμαίων)‏[4] أو رومانيا (باليونانية: Ῥωμανία)‏، وأُطلقَ على شعبها اسم الروم، وكانت استمرارًا مباشرًا للإمبراطورية الرومانية في الشرق وحافظت على تقاليد الحضارة الرومانية القديمة.[5][6] نشأت الإمبراطورية البيزنطية نتيجة انقسام الإمبراطورية الرومانية، وفي حين سقطت الإمبراطورية الرومانية الغربية في القرن الخامس، استمرّت الدولة البيزنطية لأكثر من ألف سنة أخرى حتى سقطت بيد الدولة العثمانية عام 1453. خلال معظم وجودها كانت الإمبراطورية البيزنطية أكبر قوة اقتصادية وثقافية وعسكرية في أوروبا وأسست ثقافة وحضارة مزدهرة،[7][8] وكانت القسطنطينية -حاضرة الإمبراطورية وعاصمتها- دُرَّة المدن المسيحية وعلى جانبٍ كبيرٍ من التنظيم والتنسيق والتطوُّر بمقاييس زمانها، كما كانت أكبر مدن العالم،[7] ومخزنًا للتماثيل ومخطوطات العصر الكلاسيكي،[9] ومركزًا رئيسيًا للمسيحية الشرقية،[9] وحاضرةً للعلوم والفنون البيزنطية.[10] لعبت العلوم البيزنطية دورًا هامًا في نقل المعارف الكلاسيكية للعالم الإسلامي،[11][12] وأيضًا في نقل العلوم اليونانية الكلاسيكية والعربيَّة إلى عصر النهضة في إيطاليا.

ظهر مصطلح «الإمبراطورية البيزنطية» بعد اختفائها عن مسرح التاريخ العالمي، لقد أشار مواطنوها إلى دولتهم ببساطة على أنها «الإمبراطورية الرومانية» (باليونانية: Βασιλεία Ῥωμαίων)‏ أو «رومانيا» (باليونانية: Ῥωμανία)‏، وأطلقوا على أنفسهم مصطلح «الرومان» (باليونانية البيزنطيَّة:Ῥωμαῖοι)، وهو مصطلح استمر اليونانيون في استخدامه عن أنفسهم في العصر العثماني، بينما أُطلقَ على سكان بيزنطة في العالم الإسلامي اسم «الروم»، وهي تسمية اتّخذتها طوائف مسيحية شرقية فيما بعد. ومع أن الدولة الرومانية استمرّت مع تقاليدها في القسم الشرقي من الإمبراطورية الرومانية، إلا أن المؤرخين المعاصرين يُميزون بيزنطة عن سابقتها روما القديمة لأنها تأسست في القسطنطينية، وتوجهت نحو الثقافة اليونانية بدلاً من الثقافة اللاتينية، وكان سكانها في الغالب يتحدثون اللغة اليونانية بدلًا من اللاتينية، وتميزت بالمسيحية الأرثوذكسية الشرقية.[5]

بما أن التمييز بين الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية البيزنطية حديث إلى حد كبير، فليس من الممكن تحديد تاريخٍ للفصل بينهما، ولكن النقطة المهمة كانت نقل الإمبراطور قسطنطين العظيم العاصمة في 324/330 من نيقوميديا (في الأناضول) إلى بيزنطة على البوسفور والتي أصبحت تسمى القسطنطينية أي «مدينة قسطنطين» (أو «روما الجديدة» أحيانًا)، بالإضافة إلى إضفائه الشرعية على المسيحية.(1) وتُشير عدّة أحداث من القرن الرابع إلى القرن السادس إلى فترة الانتقال التي تباعد خلالها الشرق اليوناني عن الغرب اللاتيني. في عهد ثيودوسيوس الأول أصبحت المسيحية دين الدولة وحُظرَت الممارسات الدينية الأخرى، وقُسِّمت الإمبراطورية الرومانية أخيرًا في عام 395 بعد وفاة الإمبراطور ثيودوسيوس الأول (حكم 379-395) لذلك فهذا التاريخ مهم جدًا حيث يعتبر تاريخ بداية الإمبراطورية البيزنطية (أو الإمبراطورية الرومانية الشرقية) وفصلها تمامًا عن الغربية. بدأ الانتقال إلى التاريخ البيزنطي الخاص أخيرًا في عهد الإمبراطور هرقل (حكم 610-641)، عندما أسس هرقل على نحو فعال دولة جديدة بعد إصلاح الجيش والإدارة من خلال إنشاء البنود وتغيير اللغة الرسمية للإمبراطورية من اللاتينية إلى اليونانية.[13]

عاشت الإمبراطورية البيزنطية أكثر من ألف سنة منذ القرن الرابع وحتى عام 1453. في عهد جستينيان الأول (حكم 527-565) وصلت الدولة إلى أقصى حد لها، بعد استعادة جزء كبير من ساحل البحر الأبيض المتوسط الغربي الذي كان رومانيًا تاريخيًا، والذي ضمّ شمال إفريقيا وإيطاليا وروما، واحتفظت به لمدة قرنين آخرين. خلال الجزء الأكبر من وجودها كانت بيزنطة واحدة من أقوى القوى الاقتصادية والثقافية والعسكرية في أوروبا حتى مع النكسات وفقدان الأراضي خصوصًا خلال الحروب الرومانية الفارسية والبيزنطية الإسلامية. خلال الفتوحات الإسلامية المبكرة في القرن السابع خسرت الإمبراطورية أغنى مقاطعاتها مصر وسوريا لصالح الخلافة الراشدة. تعافت الدولة تحت حكم السلالة المقدونية في القرنين العاشر والحادي عشر، وصعدت مرة أخرى لتصبح قوة بارزة في شرق البحر الأبيض المتوسط بحلول أواخر القرن العاشر لتنافس الخلافة الفاطمية؛[14] توسعت الإمبراطورية مرة أخرى وشهدت نهضة ثقافية وعلميَّة وأدبيََة وفنيَّة واقتصادية عُرفت بعصر النهضة المقدونية الذي دام قرنين،[14] والذي انتهى بفقدان جزء كبير من الأناضول لصالح الأتراك السلاجقة بعد معركة ملاذكرد في عام 1071. فتحت هذه المعركة الطريق أمام الأتراك ليستقرّوا في الأناضول.

بحلول القرن الثاني عشر انتعشت الإمبراطورية خلال الترميم الكومنيني وهي حقبة شهدت فيها الدولة انتعاشًا عسكريًا وماليًا وإقليميًا،[15][16] وكانت القسطنطينية أكبر مدينة في أوروبا وأغناها،[14] وظلَّت في ذلك العهد المدينة الرائدة في العالم المسيحي من حيث الحجم والثراء والثقافة.[14] واستعاد آل كومنين بعض الأرض وفرضوا هيمنتهم لمدة وجيزة في القرن الثاني عشر ولكن بعد وفاة الإمبراطور أندرونيكوس الأول كومنينوس (حكم 1183-1185) ونهاية سلالة الكومنينيين أواخرَ القرن الثاني عشر تراجعت الدولة مرة أخرى. تلقت الإمبراطورية ضربة قاتلة خلال الحملة الصليبية الرابعة، عندما حُوصرت القسطنطينية ونُهبت عام 1204، وقُسمت الأراضي التي حكمتها الإمبراطورية سابقًا إلى كيانات بيزنطية يونانية ولاتينية مُتنافسة. مع أنّ السلالة الباليولوجية استعادت القسطنطينية في نهاية المطاف عام 1261، ظلَّت بيزنطة واحدة فقط من بين عدة دول متنافسة في المنطقة على مدى السنوات المئتين الأخيرة من وجودها. ومع ذلك كانت هذه المدة الزمنية الأكثر إنتاجًا ثقافيًا في تاريخ الدولة.[6] أدت الحروب المتعاقبة في القرن الرابع عشر إلى استنزاف المزيد من قوة الإمبراطورية، وفقدت معظم أراضيها المتبقية تدريجياً خلال الحروب البيزنطية العثمانية على مدى القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وبلغت تلك الحروب ذروتها إثر استيلاء الدولة العثمانية على الأراضي المتبقية في القرن الخامس عشر مع سقوط القسطنطينية بيد العثمانيين عام 1453، ثم تعرضت إمبراطورية طرابزون للغزو بعد ثماني سنوات في حصار عام 1461. غزا العثمانيون إمارة ثيودورو وهي آخر الدول التي خلفت الدولة البيزنطية في عام 1475.

تركت الإمبراطورية البيزنطية بصمة طويلة الأمد على تاريخ وحضارة أوروبا والعالم، ويتفق المؤرخون على عدم إمكانية إنكار المساهمة البيزنطية في تشكيل أوروبا القروسطية، وعلى أن بيزنطة لعبت دورًا رئيسًا في تشكيل الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية،[17] والتي تحتل بدورها موقعًا مركزيًا في تاريخ ومجتمعات اليونان، ورومانيا وبلغاريا وروسيا وجورجيا، وصربيا ودولٍ أخرى.[17] ولا يزال الإرث الطقسي والأدبي والمعماري (القديم والجديد) والموسيقي والفني والقانوني والثقافي البيزنطي ظاهراً وحيّاً في دول أوروبا الشرقيَّة والبلقان إلى جانب المجتمعات المسيحية في الشرق الأوسط.[18]

أصل التسمية[عدل]

ظهرت تسمية الإمبراطورية بالبيزنطية في أوروبا الغربية في عام 1557 عندما نشر المؤرخ الألماني هيرونيموس فولف كتابه كوربوس هستوريا بيزنتيا وهو مجموعة من المصادر التاريخية. يأتي المصطلح من بيزنطة وهو اسم القسطنطينية قبل أن تصبح عاصمة قسطنطين العظيم. نادرًا ما استخدم هذا الاسم من تلك الفترة فصاعدًا إلا في السياقات التاريخية أو الشعرية. أشاع نشر بيزنتين دو لوفر (كوربوس سكريبتوروم هستوريا بيزنتيا) عام 1648 ونشر شارل دو كانج كتابه هستوريا بيزنتينا استخدام مفردة بيزنطي بين المؤلفين الفرنسيين مثل مونتسكيو.[19] اختفى المصطلح حتى القرن التاسع عشر عندما استخدم على نطاق واسع في العالم الغربي.[20] قبل هذا الوقت كانت تستخدم تسمية اليونانية للدلالة على الإمبراطورية وأحفادها في إطار الدولة العثمانية.

عُرفت الإمبراطورية البيزنطية لسكانها باسم الإمبراطورية الرومانية أو إمبراطورية الرومان (باللاتينية: Imperium Romanum أو Imperium Romanorum) (باليونانية: Βασιλεία τῶν Ῥωμαίων أو Ἀρχὴ τῶν Ῥωμαίων)‏ أو رومانيا(2) (باللاتينية: Romania) (باليونانية: Ῥωμανία)‏ أو الجمهورية الرومانية (باللاتينية: Res Publica Romana) (باليونانية: Πολιτεία τῶν Ῥωμαίων)‏[21] أو غريكيا (باليونانية: Γραικία)‏[22] وأيضًا رومايس (باليونانية: Ῥωμαΐς)‏.[23] ومع أن سكان الإمبراطورية البيزنطية كانوا متعددي الأعراق خلال معظم تاريخها،[24] إلا أنها حافظت على التقاليد الرومانية الهيلينستية،[25] وعرفها معاصروها الغربيون والشماليون بعنصرها اليوناني السائد.[26] استُخدم أحيانًا لقب إمبراطورية اليونان (باللاتينية: Imperium Graecorum) في الغرب للإشارة إلى الإمبراطورية الرومانية الشرقية، وسُمِّيَ الإمبراطور البيزنطي إمبراطور اليونان (باللاتينية: Imperator Graecorum)[27] وذلك لتمييزها عن الإمبراطورية الرومانية المقدسة في الغرب، والتي ادعت أنها استمرار للإمبراطورية الرومانية القديمة.[28] خضعت سلطة الإمبراطور البيزنطي كوريث شرعي للإمبراطور الروماني للتحدي عندما توّج البابا ليون الثالث شارلمان إمبراطورًا رومانيًا مقدسًا في العام 800. إذ احتاج البابا ليون الثالث لدعم شارلمان في نزاعه ضد أعدائه في روما، فاستغل ليون غياب وريث ذكر لعرش روما حينها ليعلن شغوره وذلك مكنه من تتويج إمبراطور جديد بنفسه.[29] عندما كان الباباوات أو حكام الغرب يشيرون للأباطرة الرومان الشرقيين فإنهم يستخدمون إمبراطور رومانيا (باللاتينية: Imperator Romaniæ) بدلًا من إمبراطور الرومان (باللاتينية: Imperator Romanorum) وهو اللقب الذي احتفظ به شارلمان وخلفاؤه.[30]

لم يوجد مثل هذا التمييز في العوالم الإسلامية والفارسية والسلافية، فقد اعتُبرت الإمبراطورية استمرارًا للإمبراطورية الرومانية. في العالم الإسلامي أطلق عليهم اسم الروم.[31][32] وقد اتّخذت تسمية «الروم» أيضًا الطوائف المسيحية الشرقية التي تتبع الطقس البيزنطي.

في الأدبيات التاريخية الحديثة عادة ما تسمى الإمبراطورية بالإمبراطورية الرومانية الشرقية في سياق الفترة 395-610، أي قبل عهد الإمبراطور هرقل الذي غير اللغة الرسمية من اللاتينية إلى اللغة اليونانية (وهي لغة أغلبية السكان). في السياقات بعد عام 610 يستخدم مصطلح الإمبراطورية البيزنطية بصورة أكبر.

التاريخ[عدل]

التاريخ المبكر للإمبراطورية الرومانية[عدل]

كان قسطنطين العظيم أول إمبراطور روماني يعتنق المسيحية، كما نقل مقر الإمبراطورية إلى بيزنطة التي سُمّيت لاحقًا بالقسطنطينية تكريمًا له.

نجح الجيش الروماني في احتلال العديد من المناطق التي تغطي منطقة البحر الأبيض المتوسط والمناطق الساحلية في جنوب غرب أوروبا وشمال إفريقيا. كانت هذه الأراضي موطنًا للعديد من المجموعات الثقافية المختلفة، سواءً سكان الحضر أو سكان الريف. بوجهٍ عام كانت مقاطعات شرق البحر الأبيض المتوسط أكثر تحضرًا من المقاطعات الغربية، بعد أن وُحّدت في السابق تحت حكم الإمبراطورية المقدونية وتَهلْيَنت بتأثير الثقافة اليونانية.[33]

عانى الغرب أيضًا بدرجة أكبر من عدم الاستقرار في القرن الثالث. استمر هذا التمييز بين الشرق الهليني الراسخ والغرب اللاتيني الأصغر، وأصبح ذا أهمية متزايدة في القرون اللاحقة، مما أدى إلى اغتراب تدريجي للعالمين.[33]

حدث مثال مبكر لتقسيم الإمبراطورية إلى الشرق والغرب في عام 293 عندما أنشأ الإمبراطور ديوكلتيانوس نظامًا إداريًا جديدًا (الحكم الرباعي) لضمان الأمن في جميع المناطق المهددة بالزوال في إمبراطوريته. لقد ارتبط بإمبراطور مشارك (أغسطس)، ثم تبنى كل إمبراطور مشارك زميلًا شابًا يحمل لقب قيصر ليشاركه في حكمه وفي النهاية يخلف الشريك الأكبر. كان كل حاكم رباعي مسؤولًا عن جزء من الإمبراطورية. انهار النظام الرباعي، ومع ذلك في عام 313 -بعد بضع سنوات- أعاد قسطنطين الأول توحيد التقسيمين الإداريين للإمبراطورية باسم أغسطس الوحيد.[34]

تنصير الإمبراطورية وتقسيمها[عدل]

بعد وفاة ثيودوسيوس الأول عام 395 انقسمت الإمبراطورية مرة أخرى. تفكك الغرب في أواخر القرن الرابع الميلادي بينما انتهى الشرق بسقوط القسطنطينية عام 1453.
  الإمبراطورية الرومانية الغربية
  الإمبراطورية الرومانية الشرقية / الإمبراطورية البيزنطية

في عام 330 نقل قسطنطين مقر الإمبراطورية إلى القسطنطينية التي أسسها باعتبارها روما الثانية في موقع مدينة بيزنطة الاستراتيجي على طرق التجارة بين أوروبا وآسيا وبين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود. أدخل قسطنطين تغييرات مهمة على المؤسسات العسكرية والنقدية والمدنية والدينية للإمبراطورية. وفيما يتعلق بسياساته الاقتصادية اتهمه بعض العلماء بـ«الضلال الطائش»، لكن الصوليدوس الذهبي الذي أدخله غدا عملة مستقرة غيّرت الاقتصاد وعززت التنمية.[35]

في عهد قسطنطين لم تصبح المسيحية الدين الحصري للدولة، ولكنها تمتعت بتفضيل إمبراطوري لأنه دعمها بامتيازات سخية. أسس قسطنطين المبدأ القائل بأن الأباطرة لايستطيعون تسوية مسائل العقيدة بأنفسهم ولكن عليهم بدلًا من ذلك استدعاء المجامع المسكونية لهذا الغرض، ويشير عقده لكل من مجمع آرل المسكوني ومجمع نيقية الأول إلى اهتمامه بوحدة الكنيسة وإظهار ادعائه بأنه رأسها.[36] توقف صعود المسيحية لفترة وجيزة عند تولي الإمبراطور يوليان عام 361، والذي بذل جهدًا دؤوبًا لاستعادة تعدد الآلهة في جميع أنحاء الإمبراطورية، لذا أطلقت عليه الكنيسة اسم «يوليان المرتد».[37] ولكنْ انقلب الأمر عندما قُتل يوليان في معركة عام 363.[38]

قسم مرمم من أسوار القسطنطينية.

كان ثيودوسيوس الأول (379-395) آخر إمبراطور يحكم كلًا من الشطرين الشرقي والغربي للإمبراطورية. في عامي 391 و392 أصدر سلسلة من المراسيم تحظر بصفة أساسية الديانة الوثنية. حُظرَت الأعياد والتضحيات الوثنية، وكذلك الوصول إلى جميع المعابد الوثنية ودور العبادة.[39] ويُعتقد أن الألعاب الأولمبية الأخيرة قد أُقيمت عامَ 393.[40] عام 395 ترك ثيودوسيوس الأول المنصب الإمبراطوري بطريقة مشتركة لأبنائه؛ آركاديوس في الشرق وهونوريوس في الغرب، ومرة أخرى قسم الإدارة الإمبراطورية. في القرن الخامس نجا الجزء الشرقي من الإمبراطورية إلى حد كبير من الصعوبات التي واجهها الغرب، ويرجع ذلك جزئيًا إلى ثقافة حضرية أكثر رسوخًا وموارد مالية أكبر، مما سمح له بإرضاء الغزاة بالترفيد ودفع أجور المرتزقة الأجانب. سمح هذا النجاح لثيودوسيوس الثاني بالتركيز على تدوين القانون الروماني مع مخطوطة ثيودوسيانوس وزيادة تحصين أسوار القسطنطينية، مما جعل المدينة منيعة ضد معظم الهجمات حتى عام 1204.[41]

كان على ثيودوسيوس الثاني دفع جزية سنوية هائلة لأتيلا لدرء خطر الهون. رفض خليفته مرقيان الاستمرار في دفع الجزية، لكن أتيلا كان قد حوَّل انتباهه بالفعل إلى الإمبراطورية الرومانية الغربية. بعد وفاة أتيلا عام 453 انهارت إمبراطورية الهون. فيما بعد كثيرًا ما وُظِّفَ العديد من الهون المتبقين مرتزقةً لدى القسطنطينية.[42]

انعقد عام 451 مجمع خلقيدونية، وعلى إثره حدث انقسام بين المسيحيين حيث انفصلت الكنائس المشرقية الرافضة للمجمع عن الشراكة مع الكنيستين البيزنطية والرومانية اللتين اتّبعتا المذهب الخلقيدوني، وأصبحت تلك الكنائس تُعرف بالكنائس الأرثوذكسية المشرقية أو الميافيزية، كما أقرّ المجمع قانونًا بالمساواة بين كرسي روما وكرسي القسطنطينية، وهو ما أثار اعتراض الرومان في الغرب. صدّق الإمبراطور مرقيان على قرارت المجمع، وأمر بنفي أوطاخي وبابا الكنيسة القبطية ديوسقورس الأول لمعارضتهما إياه.[43]

خسارة الإمبراطورية الرومانية الغربية[عدل]

بعد موت أتيلا تمتعت الإمبراطورية الشرقية بفترة من السلام، بينما استمرت الإمبراطورية الغربية في التدهور بسبب توسع هجرة وغزوات البرابرة، وعلى الأخص الأمم الجرمانية. عادةً ما يرجع تاريخ نهاية الغرب إلى عام 476 عندما أطاح القائد الفيوديراتي الجرماني الشرقي الروماني أودواكر بالإمبراطور الغربي رومولوس أوغستولوس بعد عام من اغتصاب الأخير المنصب من يوليوس نيبوس.[44]

في عام 480 مع وفاة يوليوس نيبوس أصبح الإمبراطور الشرقي زينون المطالب الوحيد بعرش الإمبراطورية. كان أودواكر حينها حاكم إيطاليا، وكان اسميًا يتبع لزينون ولكنه تصرف باستقلالية كاملة، وفي النهاية قدم الدعم للتمرد ضد الإمبراطور.[45]

تفاوض زينون مع القوط الشرقيين الغزاة الذين استقروا في مويسيا، وأقنع الملك القوطي ثيودوريك بالرحيل إلى إيطاليا بصفته قائدًا عسكريًا في إيطاليا («القائد العام لإيطاليا») لإزاحة أودواكر. كانت نتيجة حث ثيودوريك على غزو إيطاليا أنْ خلّص زينون الإمبراطوريةَ الشرقيةَ من مرؤوسٍ عنيدٍ (أودواكر) ونقل غازياً آخر (ثيودوريك) بعيدًا عن قلب الإمبراطورية. بعد هزيمة أودواكر عام 493 حكم ثيودوريك إيطاليا بحكم الأمر الواقع، مع أن الأباطرة الشرقيين لم يعترفوا به على أنه ملك روما.[45]

في عام 491 أصبح أناستاسيوس الأول -وهو ضابط مدني كبير السن من أصل روماني- إمبراطورًا، ولكن لم يأتِ عام 497 حتى اتخذت قوات الإمبراطور الجديد بدرجة فعالة مقياس المقاومة الإيساورية.[46] أظهر أناستاسيوس نفسه مصلحًا نشيطًا ومسؤولًا قديرًا، وقدم نظامًا جديدًا لعملة الفلس النحاسية، العملة المستخدمة في معظم المعاملات اليومية.[47] كما أصلح النظام الضريبي وألغى ضريبة الكريسارجيرون بصفة دائمة. واحتوت خزينة الدولة على مبلغ هائل قدره 320,000 رطل (150,000 كجم) من الذهب عندما توفي عام 518.[48]

السلالة الجستينية[عدل]

الإمبراطور جستينيان (يمين) و(ربما) القائد بيليساريوس (يسار)، فسيفساء من كنيسة القديس فيتالي، القرن السادس

أسّس جستين الأول السلالة الجستينية مع أنه كان أمّيًا، وارتقى بواسطة الجيش ليصبح إمبراطورًا في عام 518.[49] وخلفه ابن أخيه جستينيان الأول عام 527، والذي ربما يكون مارس بالفعل سيطرةً فعالةً خلال فترة حكم جستين.[50] وباعتباره من أهم الشخصيات في العصور القديمة المتأخرة وربما آخر إمبراطور روماني يتحدث اللاتينية لغةً أولى،[51] يشكل حكم جستينيان حقبةً مميزةً تميزت بالطموح -ولكن جزئيًا فقط- لتجديد الإمبراطورية، أو «استعادة الإمبراطورية».[52] وكانت زوجته ثيودورا مؤثرة بوجهٍ خاص.[53]

عام 529 عيّن جستنيان لجنة من عشرة رجال برئاسة يوحنا الكبادوكي لمراجعة القانون الروماني وإنشاء تدوين جديد للقوانين ومقتطفات الفقهاء عُرفَ باسم «قانون جستنيان». في عام 534 حُدّثَ الدستور إلى جانب التشريعات التي أصدرها جستينيان بعد عام 534، والتي شكّلت نظام القانون المستخدم في معظم الفترة المتبقية من العصر البيزنطي.[54] يشكل قانون جستينيان أساس القوانين المدنية للعديد من الدول الحديثة.[55] عام 532 -وفي محاولة لتأمين حدوده الشرقية- وقّع جستينيان معاهدة سلام مع كسرى الأول الساساني من بلاد فارس، ووافق على دفع جزية سنوية كبيرة للساسانيين. في العام نفسه نجا من ثورة في القسطنطينية (تمرد نيكا)، والتي عززت سلطته لكنها انتهت بمقتل ما بين 30,000 إلى 35,000 من مثيري الشغب بناءً على أوامره.[56] بدأت الفتوحات الغربية عام 533 عندما أرسل جستينيان قائد جيوشه بيليساريوس لاستعادة مقاطعة أفريكا السابقة من الوندال الذين كانوا يسيطرون عليها منذ عام 429 وعاصمتهم قرطاج.[57] جاء نجاحهم بسهولة مدهشة، ولكن لم تخضع القبائل المحلية الرئيسية حتى عام 548.[58]

الإمبراطورة ثيودورا والحاضرين (فسيفساء من كنيسة القديس فيتالي، (القرن السادس).

عام 535 لاقت بعثة بيزنطية صغيرة إلى صقلية نجاحًا سهلاً، لكن سرعان ما شدد القوط من مقاومتهم، ولم يتحقق النصر حتى عام 540 عندما استولى بيليساريوس على رافينا بعد حصار ناجح لنابولي وروما.[59] في 535-536 أرسل ملك القوط الشرقيين ثيوداهاد البابا أغابيتس الأول إلى القسطنطينية طالبًا سحب القوات البيزنطية من صقلية، ودالماتيا، وإيطاليا. مع أن أغابيتس فشل في مهمته بتوقيع اتفاق سلام مع جستينيان، لكنه نجح في خلع بطريرك القسطنطينية الميافيزي أنثيموس الأول حتى مع دعم الإمبراطورة ثيودورا له وحمايتها.[60]

استولى القوط الشرقيون على روما عام 546. استُدعيَ بيليساريوس -الذي كان أُعيد إلى إيطاليا عام 544- في النهاية إلى القسطنطينية عام 549.[61] كان وصول المخصي الأرمني نارسيس إلى إيطاليا (أواخر 551) بجيش بيزنطي قوامه 35000 رجلٍ بمنزلة تحول آخر في النجاحات القوطية. هُزم توتيلا في معركة تاجيناي وخلفه تيا الذي هُزم أيضًا في معركة مونس لاكتاريوس (أكتوبر 552). ومع أن المقاومة استمرّت من قبل عددٍ قليلٍ من الحاميات القوطية ووقوع غزوين لاحقين من الفرنجة والألامانيين إلا أن الحرب على شبه الجزيرة الإيطالية كانت في نهايتها.[62] في عام 551 سعى أثاناغيلد -وهو نبيل من القوط الغربيين في هسبانيا- لمساعدة جستينيان في تمرد ضد الملك، وأرسل الإمبراطور قوة بقيادة ليبيريوس وهو قائد عسكري ناجح. احتفظت الإمبراطورية بجزء صغير من ساحل شبه الجزيرة الإيبيرية حتى عهد هرقل (حكم 610-641).[63]

يظهر التوسع البيزنطي في عهد جستنيان باللون البنفسجي.

في الشرق استمرت الحروب الرومانية الفارسية حتى عام 561 عندما اتفق مبعوثا جستينيان وكسرى الأول على سلام لمدة 50 عامًا.[64] بحلول منتصف عقد الخمسينات حقق جستنيان انتصارات في معظم مسارح العمليات باستثناء منطقة البلقان التي تعرضت لغارات متكررة من السلاف والغبيديين. أُعيد توطين قبائل الصرب والكروات لاحقًا في شمال غرب البلقان في عهد هرقل.[65] طلب جستينيان من بيليساريوس أن يخرج عن تقاعده، وهزم تهديد الهون الجديد. أدى تعزيز أسطول نهر الدانوب إلى انسحاب الكوتريغور الهون ووافقوا على معاهدة تسمح بمرور آمن عبر نهر الدانوب.[66]

مع أن الدولة قمعت تعدد الآلهة منذ عهد قسطنطين -في القرن الرابع- على الأقل، إلا أن الثقافة اليونانية الرومانية التقليدية كانت لا تزال مؤثرة في الإمبراطورية الشرقية في القرن السادس.[67] بدأت الفلسفة الهلنستية بالاندماج تدريجيًا في الفلسفة المسيحية الأحدث. اعتمد الفلاسفة مثل يوحنا النحوي على الأفكار الأفلاطونية الحديثة بالإضافة إلى الفكر المسيحي والتجريبية. أغلق جستنيان الأكاديمية الأفلاطونية الحديثة بسبب الوثنية النشطة لأساتذتها عامَ 529. استمرت المدارس الأخرى في القسطنطينية وأنطاكية والإسكندرية، والتي كانت المراكز الثقافية لإمبراطورية جستينيان.[68] كانت الترانيم التي كتبها رومانوس الملحن بمنزلة علامة على تطور القداس الإلهي، في حين عمل المهندسان المعماريان إيسيدور الملاطي وأنتيميوس الترالسي على استكمال كنيسة الحكمة الإلهية الجديدة آيا صوفيا، والتي صُمّمت لتحل محل كنيسة قديمة دمرت خلال تمرد نيكا. انتهى بناء آيا صوفيا عام 537، وهي اليوم أحد المعالم الأثرية الرئيسية في تاريخ العمارة البيزنطية.[69] خلال القرنين السادس والسابع ضربت الإمبراطورية سلسلة من الأوبئة دمرت معيشة السكان بدرجة كبيرة وساهمت في تدهور اقتصادي كبير وإضعاف الإمبراطورية.[70] بُنيت حمامات عامة كبيرة في المراكز البيزنطية مثل القسطنطينية وأنطاكية.[71]

بُنيت آيا صوفيا في عام 537 في عهد جستينيان. أضافت الدولة العثمانية المآذن في القرنين الخامس عشر والسادس عشر.[72]

ولأكثر من 900 عام كانت آيا صوفيا أهم مبنىً في العالم المسيحي الشرقي؛ ومقر البطريرك الأرثوذكسي نظير البابا الروماني الكاثوليكي، وكذلك الكنيسة المركزية للأباطرة البيزنطيين، ويقول المؤرخ روجر كراولي عن آيا صوفيا: «لخصت كل ما كان عليه الدين الأرثوذكسي.. بالنسبة لليونانيين، كانت ترمز إلى مركز عالمهم. كان هيكلها ذاته صورة مصغرة من السماء، استعارة للأسرار الإلهية للمسيحية الأرثوذكسية». وقال أيضًا: «كانت آيا صوفيا هي الكنيسة الأم، فهي ترمز إلى أبدية القسطنطينية والإمبراطورية».[73] بعد وفاة جستينيان عام 565 رفض خليفته جستين الثاني دفع الجزية الكبيرة للفرس. في غضون ذلك غزا اللومبارديون الجرمانيون إيطاليا. بحلول نهاية القرن كان ثلث إيطاليا فقط في أيدي البيزنطيين. اختار خليفة جستين تيبريوس الثاني بين أعدائه حيث منح إعانات للآفار أثناء بدئه عملًا عسكريًا ضد الفرس. قاد موريكيوس قائد جيوش الإمبراطور تيبيريوس حملةً فعالةً على الحدود الشرقية، إلا أن الأتاوات فشلت في كبح جماح الآفار. استولى على قلعة سيرميوم في البلقان في عام 582 بينما بدأ السلاف في غزوات عبر نهر الدانوب.[74]

تدخل موريكيوس -الذي خلف تيبريوس- في الوقت نفسه في حرب أهلية فارسية، وأعاد كسرى الثاني الشرعي إلى العرش، وتزوج ابنته. وسّعت معاهدة موريكيوس مع صهره الجديد أراضي الإمبراطورية إلى الشرق وسمحت للإمبراطور النشط بالتركيز على البلقان. بحلول عام 602 دفعت سلسلة من الحملات البيزنطية الناجحة الآفار والسلاف عبر نهر الدانوب.[74] ومع ذلك أدى رفض موريكيوس افتداء عدة آلاف من الأسرى ممن أسرهم الآفار، وإبقائه القوات في الشتاء على نهر الدانوب إلى انخفاض شعبيته. فاندلعت ثورة بقيادة ضابط يدعى فوقاس عاد بالجيش إلى القسطنطينية. قُتل موريكيوس وعائلته أثناء محاولتهم الهرب.[75]

تقلص الحدود[عدل]

السلالة الهرقلية المبكرة[عدل]

معركة بين هرقل والفرس، بريشة بييرو ديلا فرانشيسكا، حوالي عام 1452.

استخدم كسرى مقتل موريكيوس على يد فوقاس ذريعةً لاستعادة مقاطعة ميزوبوتاميا الرومانية (بلاد ما بين النهرين).[76] كان فوقاس حاكمًا لا يحظى بشعبية ووصفته المصادر البيزنطية بأنه «طاغية»، وكان هدفًا لعدد من المؤامرات التي قادها مجلس الشيوخ البيزنطي. في النهاية في عام 610 خلعه هرقل الذي أبحر إلى القسطنطينية من قرطاج بأيقونة مثبتة على مقدمة سفينته.[77]

بعد تتويج هرقل توغّل الساسانيون في عمق بلاد الشام، واحتلّوا دمشق والقدس ونقلوا الصليب الحقيقي إلى طيسفون.[78] اتخذ الهجوم المضاد الذي شنه هرقل طابع الجهاد المقدس، وحُملت أيقونة غير مصنوعة باليد للمسيح رايةً عسكرية.[79] (وبالمثل عندما أُنقذَت القسطنطينية من حصار آفاري-ساساني-سلافي عام 626، نُسب النصر إلى أيقونات العذراء التي رفعها البطريرك سرجيوس في موكب حول أسوار المدينة).[80] أثناء حصار القسطنطينية عام 626 في خضم الحرب الساسانية البيزنطية 602-628 حاصرت القوات الآفارية والساسانية والسلافية العاصمة البيزنطية دون جدوى بين يونيو ويوليو. بعد ذلك اضطر الجيش الساساني إلى الانسحاب إلى الأناضول. وجاءت الخسارة بعد أن وصلت الأخبار عن انتصار بيزنطي آخر، حيث حقق تذارق شقيق هرقل انتصارات جيدة ضد القائد الفارسي شاهين.[81] بعد ذلك قاد هرقل مرة أخرى غزوًا إلى بلاد ما بين النهرين الخاضعة للحكم الساساني.

بحلول عام 650 فقدت الإمبراطورية جميع مقاطعاتها الجنوبية باستثناء إكسرخسية قرطاج لصالح الخلافة الراشدية. في الوقت نفسه غزا السلاف البلقان واستقروا فيها.

دُمّرت القوة الساسانية الرئيسية في نينوى عام 627، وفي عام 629 أعاد هرقل الصليب الحقيقي إلى القدس في احتفال مهيب،[82] وبدأ يتقدم نحو العاصمة الساسانية طيسفون حيث سادت الفوضى والحرب الأهلية نتيجة للحرب المستمرة. في نهاية المطاف اضطر الفرس لسحب جميع القوات المسلحة والتخلي عن مصر وبلاد الشام وأية أراضٍ إمبراطوريةٍ في بلاد ما بين النهرين وأرمينيا كانت بأيدي الرومان زمنَ معاهدة السلام الموقعة حوالي عام 595. لقد استنفدت الحرب كلًا من البيزنطيين والساسانيين، وتركتهم ضعفاء للغاية أمام القوات الإسلامية التي ظهرت في السنوات التالية.[83] عانى البيزنطيون من هزيمة ساحقة على يد العرب في معركة اليرموك عام 636، بينما سقطت طيسفون عام 637.[84]

عند بداية السلالة الهرقلية كانت ثقافة الإمبراطورية ما تزال بجوهرها رومانية قديمة، تُسيطر على البحر الأبيض المتوسط وتشكّل ملجأً لحضارةٍ مدنيةٍ مزدهرةٍ تعود للعصور القديمة. تمزَّق هذا العالم بفعل غزوات متلاحقة نتج عنها فقدان أراضٍ واسعةٍ وانهياراتٍ ماليةٍ وأوبئةٍ هجرت سكان بعض المدن في حين زادت الثورات والخلافات الدينية من ضعف الإمبراطورية.

مع نهاية السلالة الهرقلية طوّرت الإمبراطورية بنية مختلفة للدولة، تُعرف الآن في علم التأريخ ببيزنطة القروسطية، التي مثلت بصورة رئيسية مجتمعًا زراعيًا حُكِم عسكريًا وانخرط في صراع طويل مع الخلافة الإسلامية، إلا أن الإمبراطورية كانت أيضًا خلال هذه الفترة متجانسةً بصورة أكبر بكثير لاقتصارها على مناطق مركزية تؤمن بالمسيحية الخلقدونية وتتحدث اليونانية في الغالب الأمر الذي أتاح لها اجتياز المحنة والدخول في فترة من الاستقرار تحت حكم السلالة الإيساورية الوريثة.

الحصار الإسلامي الأول للقسطنطينية (674-678) ونظام البند[عدل]

استخدمت البحرية البيزنطية النار الإغريقية لأول مرة خلال الحروب البيزنطية الإسلامية (من مخطوطة مدريد سكايليتزيس، المكتبة الوطنية الإسبانية، مدريد).

أرسل العرب المسلمون الذين سيطروا حينها بقوة على الشام غارات متكررة في عمق الأناضول، وفي 674-678 فرضوا حصارًا على القسطنطينية نفسها. صُدَّ الأسطولُ العربي أخيرًا نتيجة استخدام النار الإغريقية، ووُقّعت هدنة لمدة ثلاثين عامًا بين الإمبراطورية والدولة الأموية.[85] ومع ذلك استمرت الغارات على الأناضول بلا هوادة، وسرعت من زوال الثقافة الحضرية الكلاسيكية، حيث أعاد سكان العديد من المدن تحصين مناطق أصغر بكثير داخل أسوار المدينة القديمة أو انتقلوا بالكامل إلى الحصون المجاورة.[86] انخفض عدد سكان القسطنطينية نفسها بدرجة كبيرة من نحو نصف مليون ساكن إلى ما بين 40,000 و70,000 فقط، ومثل المراكز الحضرية الأخرى كانت ريفية جزئيًا. كما فقدت المدينة شحنات الحبوب المجانية عام 618، بعد أن سقطت مصر أولاً في أيدي الفرس ثم العرب، وتوقف التوزيع العام للقمح.[87] مُلئَ الفراغ الذي خلفه اختفاء المؤسسات المدنية شبه المستقلة القديمة بالنظام المسمى بالبند، مما استلزم تقسيم الأناضول إلى مقاطعاتٍ تحتلها جيوش متميزة تولت السلطة المدنية وكانت تخضع مباشرة للإدارة الإمبراطورية. قد يكون لهذا النظام جذوره في بعض التدابير المخصصة التي اتخذها هرقل، ولكن على مدار القرن السابع تطور إلى نظام جديد تمامًا للحكم الإمبراطوري.[88] قيل إن إعادة الهيكلة الثقافية والمؤسسية الضخمة للإمبراطورية التي نتجت عن فقدان الأراضي في القرن السابع تسببت بحدوث انقطاع حاسم في رومانيّة شرق البحر الأبيض المتوسط، وأن من الأفضل فهم الدولة البيزنطية لاحقًا على أنها دولة وريثة أخرى بدلًا من كونها استمرارًا حقيقيًا للإمبراطورية الرومانية.[89]

السلالة الهرقلية المتأخرة[عدل]

قسطنطين الرابع وحاشيته، فسيفساء في كنيسة سانت أبوليناري في كلاس. هزم قسطنطين الرابع المسلمين في حصارهم الأول للقسطنطينية.

فتحَ سحب أعدادٍ كبيرةٍ من القوات من البلقان لمكافحة الفرس ثم العرب الباب لتوسّع الشعوب السلافية تدريجيًا نحو الجنوب في شبه الجزيرة، وكما حدث في الأناضول تقلص العديد من المدن إلى مستوطنات صغيرة محصنة.[90] في سبعينات القرن السادس دُفع البلغار نحو جنوب نهر الدانوب مع وصول الخزر. عام 680 هُزمت القوات البيزنطية التي أُرسلت لتفريق هذه المستوطنات الجديدة.[91]

في عام 681 وقع قسطنطين الرابع معاهدة مع الخان البلغاري أسباروخ، وتولت الدولة البلغارية الجديدة السيادة على العديد من القبائل السلافية التي كانت تعترف سابقًا -على الأقل اسميًا- بالحكم البيزنطي.[91] في 687-688 قاد الإمبراطور الهرقلي الأخير جستنيان الثاني حملة استكشافية ضد السلاف والبلغاريين، وحقق مكاسب كبيرة، واضطر إلى القتال في طريقه من تراقيا إلى مقدونيا، مما يدل على أن الدرجة التي وصلت إليها القوة البيزنطية في شمال البلقان قد انحدرت.[92] حاول جستنيان الثاني كسر نفوذ الطبقة الأرستقراطية الحضرية عن طريق فرض ضرائب صارمة وتعيين «غرباء» في المناصب الإدارية. طُرد من السلطة عام 695 ولجأ أولًا إلى الخزر ثم إلى البلغار. عام 705 عاد إلى القسطنطينية مع جيوش الخان البلغاري تيرفيل، واستعاد العرش وأقام عهدًا من الإرهاب ضد أعدائه، وكانت الإطاحة الأخيرة به عام 711 بدعم من الطبقة الأرستقراطية الحضرية مرة أخرى وانتهت السلالة الهرقلية.[93]

الحصار الإسلامي الثاني للقسطنطينية (717-718) والسلالة الإيساورية[عدل]

الإمبراطورية البيزنطية عند اعتلاء ليو الثالث العرش حوالي عام 717. تشير المناطق المخططة إلى أراضٍ اقتحمها الأمويون.
عملة صوليدوس تصوّر ليو الثالث (يسار)، وابنه ووريثه قسطنطين الخامس (يمين).

في عام 717 اعتلت السلالة الإيساورية أو السورية عرش الإمبراطورية، ويرجع الاختلاف في تسميتها إلى الخلاف حول أصل مؤسسها ليو الثالث (حكم 717-741) المولود في في مدينة مرعش حيث ادّعى بعض المؤرخين أن أصله من منطقة إيساوريا بينما قال آخرون إن أصله من سوريا (بلاد الشام).[94] فرضت الدولة الأموية في العام ذاته حصارًا على القسطنطينية (717-718) استمر عامًا. ومع ذلك فإن عبقرية ليو الثالث الإيساوري العسكرية، واستخدام البيزنطيين النار الإغريقية، والشتاء البارد عامَ 717-718، والدبلوماسية البيزنطية مع الخان تيرفيل البلغاري أدى إلى انتصارٍ بيزنطي. بعدما صدّ ليو الثالث هجوم المسلمين عام 718 كلّف نفسه بمهمة إعادة تنظيم وتوحيد البنود في الأناضول. في عام 740 حدث انتصار بيزنطي كبير في معركة أفيون قره حصار حيث دمر البيزنطيون الجيش الأموي مرة أخرى.

حقق ابن ليو الثالث وخليفته قسطنطين الخامس (حكم 741-775) انتصاراتٍ جديرةً بالملاحظة في شمال الشام وقوض أيضًا القوة البلغارية تمامًا.[95] في عام 746 استفاد قسطنطين الخامس من الظروف غير المستقرة في الخلافة الأموية التي كانت تنهار تحت حكم مروان بن محمد واستولى على مدينة مرعش، وأسفرت معركة كيرامايا في قبرص عن انتصار كبير للبحرية البيزنطية على الأسطول الأموي. انتهى التوسع الأموي بسبب الهزائم العسكرية على الجبهات الأخرى للخلافة وعدم الاستقرار الداخلي.

الخلاف الديني حول تحطيم الأيقونات[عدل]

صليب مسيحي بسيط: مثال على تحطيم الأيقونات في كنيسة آيا إيرين في إسطنبول.

حدث جدل وانقسام ديني في القرنين الثامن وأوائل القرن التاسع حول تحطيم الأيقونات والذي كان القضية السياسية الرئيسية في الإمبراطورية لأكثر من قرن. حظر ليو الثالث وقسطنطين الخامس الأيقونات (التي تعني هنا جميع أشكال الصور والمنحوتات الدينية) منذ عام 730 تقريبًا، مما أدى إلى قيام مؤيدي الأيقونات بثورات في جميع أنحاء الإمبراطورية. بجهود الإمبراطورة إيرين (حكمت 797-802) انعقد مجمع نيقية الثاني عام 787 والذي أكد أنه يمكن تبجيل الأيقونات ولكن لايمكن عبادتها. يقال إن إيرين سعت للتفاوض على زواجٍ بينها وبين شارلمان الكارولنجي (حكم 768-814)، ولكن وفقًا لتيوفان المعرف أحبطت الخطة أيتيوس إحدى المفضلات لديها.[96]

في أوائل القرن التاسع أعاد ليو الخامس سياسة تحطيم الأيقونات، لكن عام 843 أعادت الإمبراطورة ثيودورا تبجيل الأيقونات بمساعدة البطريرك ميثوديوس.[97] لعب تحطيم الأيقونات دورًا في مزيدٍ من العزلة بين الشرق والغرب، والتي تفاقمت خلال ما يسمى بشقاق فوتيوس، عندما رفض البابا نيكولا الأول (حبريته 858-867) صعود فوتيوس إلى البطريركية.[98]

السلالة المقدونية والصعود (867-1025)[عدل]

الإمبراطورية البيزنطية، حوالي عام 867.

يمثل اعتلاء باسيل الأول (حكم 867-886) العرش عام 867 بداية السلالة المقدونية التي حكمت لمدة 150 عامًا. ضمت هذه السلالة بعض أقدر الأباطرة في تاريخ بيزنطة، وكانت هذه الفترة فترة إحياء، وانتقلت الإمبراطورية من الدفاع ضد الأعداء الخارجيين إلى استعادة الأراضي.[99] تميزت السلالة المقدونية بإحياء ثقافي في مجالات مثل الفلسفة والفنون. كان هناك جهد واعٍ لاستعادة تألق الفترة التي سبقت الغزوات السلافية والعربية التي تبعتها، وأُطلق على العصر المقدوني «العصر الذهبي» لبيزنطة.[99] ومع أن الإمبراطورية بقيت أصغر بكثير مما كانت عليه في عهد جستينيان، إلا أنها استعادت كثيرًا من قوتها حيث كانت المناطق المتبقية أقل تشتتًا جغرافيًا وأكثر اندماجًا سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا.

الحروب ضد المسلمين[عدل]

القائد ليو فوقاس يهزم إمارة حلب الحمدانية في أندراسوس في عام 960، من مخطوطة مدريد سكايليتزيس.

استفاد المسلمون من ضعف الإمبراطورية بعد ثورة توماس الصقلبي أوائلَ عشرينات القرن التاسع، واستولوا على جزيرة كريت كما هاجموا صقلية بنجاح. ظهر التهديد البلغاري مرة أخرى تحت قيادة كروم خان البلغار، ولكن بين عامي 815-816 وقّع أومورتاج ابن كروم معاهدة سلام مع الإمبراطور البيزنطي ليون الخامس الأرمني.[100] في ثلاثينات القرن التاسع بدأت الدولة العباسية حملاتٍ عسكريةً بلغت ذروتها بانتصارها في معركة عمورية عام 838، ثم بدأ البيزنطيون هجومًا مضادًا وأغاروا على دمياط في مصر عام 853. في وقتٍ لاحقٍ رد العباسيون بإرسال قواتهم إلى الأناضول ثانيةً وبدؤوا غزوها حتى استطاع القائد بتروناس تحقيق انتصارٍ حاسمٍ عليهم في معركة لالاكيون عام 863 عندما قاد هجومًا ضد عمر الأقطع أمير ملطية.

في السنوات الأولى من حكم باسيل الأول صدّ الرّوم غارات المسلمين على سواحل دالماسيا، وفكّوا الحصار الذي فرضوه على راغوزا (866-868) وأصبحت المنطقة مرة أخرى تحت السيطرة البيزنطية. مكّنَ هذا الانتصارُ المبشرين البيزنطيين من اختراق الداخل وتحويل الصرب وسكان المناطق المعروفة اليوم بالهرسك والجبل الأسود إلى المسيحية.[101]

بحلول عام 867 أعادت الإمبراطورية البيزنطية ترسيخ مكانتها في الشرق والغرب، ومكنت كفاءتها العسكرية الدفاعية الأباطرة من بدء التخطيط لاستعادة الفتوحات في الشرق.

بدأت تلك العملية بحظوظٍ مختلفة. عقب الاستعادة المؤقتة وغير الناجحة لكريت عام 843 وقعت هزيمة بيزنطية ساحقة على مضيق البوسفور، بينما كان الأباطرة غير قادرين على صد الفتح الإسلامي الجاري في صقلية (827-902). استخدم المسلمون تونس الحالية قاعدة للانطلاق وغزوا بلرم (831) ومسينا (842) وإنا (859) وسرقوسة (878) وكاتانيا (900)، وسقط آخر معاقل البيزنطيين في تاورمينا عام 902.

اقترنت الانتصارات العسكرية في القرن العاشر بحدث ثقافي رئيسي عرف بعصر النهضة المقدونية. اللوحة مثال على التأثير الهلنستي.

خلافًا للوضع المتدهور في صقلية عالج باسيل الأول الوضع في جنوب إيطاليا جيدًا بما فيه الكفاية، فاستعاد السيطرة على باري بحلول عام 873 وحافظ على ما بقي في أيدي البيزنطيين لقرنين قادمين.[101][102] على الجبهة الشرقية الأكثر أهمية أعادت الإمبراطورية بناء دفاعاتها وبدأت في الهجوم. هزمَ الرّومُ البيلكانيين في معركة باثيس رياكس واستولوا على عاصمتهم ديوريغي، كما استعادوا السيطرة على سميساط الواقعة على الفرات بعد مهاجمة العباسيين.[101]

عام 904 حلت كارثة بسالونيك المدينة الإمبراطورية الثانية حينما غزاها أسطول عربي بقيادة القائد البيزنطي المنشق ليو الطرابلسي. رد الجيش البيزنطي بتدمير الأسطول العربي عام 908، وأغاروا على اللاذقية في سوريا بعد ذلك بعامين. ومع هذا الانتقام لم يكن البيزنطيون قادرين على توجيه ضربة حاسمة ضد المسلمين الذين ألحقوا هزيمة ساحقة بالقوة الإمبراطورية عند محاولة استعادة كريت في 911.[103]

استمر الوضع على الحدود مع مناطق سيطرة الخلافة الإسلامية متذبذبًا وتحول فيه البيزنطيون بين الهجوم والدفاع. أدى موت الملك البلغاري سيميون الأول عام 927 إلى إضعاف البلغار بشدة، مما سمح للبيزنطيين بالتركيز على الجبهة الشرقية.[104] استعادت الإمبراطورية السيطرة على ملطية عام 934. وعام 943 واصل القائد الشهير يوحنا كوركواس حملاته وانتصاراته في الجزيرة العليا، بلغت تلك الانتصارات ذروتها في السيطرة على الرها عام 944 والتي استعادت فيها القسطنطينية منديل الرها المبجّل.[105]

وسّع الإمبراطوران الجنديان نقفور الثاني (حكم 963-969) ويوحنا زيمسكي (حكم 969-976) الإمبراطورية جيدًا في الشام، وهزما أمراء شمال غربي العراق وأعادا احتلال جزيرتي كريت وقبرص.[106] استعادَ يوحنا أنطاكية ودمشق وحلب وبيروت وعكا وصيدا وقيسارية وطبريا، وفي إحدى المراحل هددت جيوشه القدس في أقصى الجنوب. أصبحت إمارة حلب ومحيطها تابعة للإمبراطورية في شرق البلاد في حين شكل الفاطميون أكبر خطر على الإمبراطورية.[107] عند دخول الروم حلب وقّعوا مع الحمدانيين معاهدة صفر التي تضمنت الاعتراف بسيادة الإمبراطورية البيزنطية على شمال بلاد الشام وترسيم حدود جديدة بين الجانبين، ودفع جزية سنوية للقسطنطينية، وحماية المسيحيين في منطقة حلب، ومنع أي جيش إسلامي من المرور فيها، وتأمين طرق التجارة ومساعدة الجيش البيزنطي في الشام. وبموجب المعاهدة اعترف الروم بقرغويه أميرًا على حلب وبملازمه بكجور وريثًا له، وبعدهما يُعيّن الروم أميرًا ممن يرونه مناسبًا من أبناء المدينة.[108] وعند دخول الروم دمشق فاوضهم حاكمها فاعترف بسيادتهم ووافق على وجود حامية مسيحية في المدينة ودفع جزية سنوية لبيزنطة.[109] بعد العديد من الحملات ردّ باسيل الثاني (حكم 976-1025) آخر تهديد عربي لبيزنطة عندما جمعَ جيشًا قوامه 40,000 لحماية مكاسبه في سوريا. مع وجود فائض الموارد بسبب الانتصارات في حملتي البلغار وسوريا خطط باسيل الثاني لاستعادة صقلية من العرب. ذلكَ الوقت امتدت الإمبراطورية من مسينا إلى الفرات ومن نهر الدانوب إلى الشام. بعد وفاته عام 1025 انطلقت الحملة في أربعينات القرن الحادي عشر وحققت نجاحًا أوليًا ضعيفًا.[110]

الحروب ضد البلغار[عدل]

الإمبراطور باسيل الثاني (حكم 976–1025).

استمر النزاع التقليدي مع كرسي روما خلال العهد المقدوني، وأثارته مسألة السيادة الدينية على دولة بلغاريا المسيحية الجديدة.[99] غزا تسار البلغار القوي سيميون الأول عام 894 بيزنطة منهيًا هدنةً دامت ثمانين عامًا بين الطرفين، ولكن البيزنطيين نجحوا في صده، فقد أرسلوا أسطولهم ليبحر عبر البحر الأسود لمهاجمة البلغار من الخلف، كما استعانوا بالمجريين.[111] إلا أن البيزنطيين هُزموا في معركة بولغاروفيغون [الإنجليزية] (896)، وأُجبروا على دفع أتاوات سنوية للبلغار.[112] توفي ليو الحكيم عام 912 وسرعان ماتجددت العداوات حيث زحف سيميون على القسطنطينية على رأس جيش كبير.[113] ومع أن جدران المدينة كانت منيعة جدًا، إلا أن الإدارة البيزنطية كانت مشتتة ووجهت الدعوة لسيميون لدخول المدينة حيث منح التاج الإمبراطوري لبلغاريا وزوّج إحدى بناته من الإمبراطور اليافع قسطنطين السابع. عندما أدى تمرد في القسطنطينية إلى إيقاف مشروع السلالة التي خطط لها، غزا تراقيا مجددًا واحتل أدريانوبولي.[114] واجهت الإمبراطورية حينها مشكلة وجود دولة مسيحية قوية على مسيرة أيام من القسطنطينية.[99] بالإضافة إلى القتال على جبهتين.[112]

أرسلت بعثة إمبراطورية كبيرة تحت إمرة ليون فوقاس الأكبر ورومانوس الأول ليكابينوس وانتهت مجددًا بهزيمة بيزنطية مدوية في معركة أخيلوس (917)، كما كان البلغار أحرارًا لاحقًا ذلك العام في نهب شمال اليونان. نُهبَت أدريانوبولي مرة أخرى في عام 923 وفرض الجيش البلغاري الحصار على القسطنطينية في العام التالي. إلا أن سيميون توفي فجأة عام 927 وانهارت القوة البلغارية معه. أصبحت بلغاريا محمية بيزنطية وتحررت يدا الإمبراطورية للتركيز على الجبهة الشرقية ضد المسلمين.[115] عام 968 تعرضت بلغاريا لغزو الروس تحت إمرة سفياتوسلاف الأول، ولكن بعد ثلاث سنوات نجح يوحنا الأول تزيميسكيس في هزيمة الروس وأعاد ضم شرق بلغاريا إلى الإمبراطورية البيزنطية.[116]

الإمبراطورية تحت حكم باسيل الثاني (976–1025).

انتعشت المقاومة البلغارية تحت حكم سلالة كوميتوبولي، ولكن الإمبراطور باسيل الثاني جعل إخضاع البلغار مهمته الرئيسية.[117] كانت الحملة الأولى ضد بلغاريا مع ذلك هزيمة مذلة على بوابة تراجان. في السنوات القليلة التالية انشغل الإمبراطور بالتمردات الداخلية في الأناضول، بينما وسع البلغار حكمهم على البلقان. استمرت الحرب لعشرين عامًا. كانت الانتصارات البيزنطية في سبيركايوس وإسكوبية حاسمة في إضعاف الجيش البلغاري، وعبر حملات سنوية نجح باسيل الثاني في إضعاف الحصون البلغارية.[117] في النهاية وفي معركة كليديون عام 1014 سُحقَ البلغار؛ أسر الجيش، وقيل إن 99 رجلًا من كل مائة قد أفقدوا أبصارهم، بينما أبقي على الرجل المئة بعين واحدة كي يقود الآخرين إلى بلادهم. عندما رأى التسار صامويل ما تبقى من جيشه العظيم توفي من الصدمة. بحلول عام 1018 استسلمت آخر معاقل البلغار، وأصبحت البلاد جزءًا من الإمبراطورية.[117] أعاد هذا النصر الحدود إلى نهر الدانوب حيث لم تكن كذلك منذ عهد الإمبراطور هرقل.[118]

العلاقات مع كييف روس[عدل]

الروس تحت جدران القسطنطينية (860).

بين عامي 850 و1100 طورت الإمبراطورية علاقة متبادلة مع دولة روس الكييفية الجديدة، والتي برزت إلى الشمال عبر البحر الأسود.[119] كان لتلك العلاقة تأثيرات طويلة الأمد على تاريخ السلاف الشرقيين، وأصبحت الإمبراطورية بسرعة الشريك التجاري والثقافي لكييف. أطلق الروس أولى هجماتهم على القسطنطينية عام 860، ونهبوا ضواحي المدينة. وظهروا ثانيةً عام 941 على ساحل البوسفور الآسيوي ولكنهم هُزموا حينها، مما يدل على تطور الوضع العسكري البيزنطي بعد المعاهدة الروسية البيزنطية (907) حيث كانت الدبلوماسية وحدها قادرة على صد الغزاة. لم يستطع باسيل الثاني تجاهل قوة روس كييف الصاعدة، واستخدم الدين مثل سابقيه لتحقيق المكاسب السياسية.[120] أصبحت العلاقات البيزنطية الكييفية أقرب بعد زواج آنا بورفيروغينيتا بفلاديمير العظيم في 988، والتنصير التالي لروس كييف.[119] وُجّهت دعوات للكهنة والفنانين والمعماريين البيزنطيين للعمل على بناء العديد من الكاتدرائيات والكنائس مما وسع النفوذ الثقافي البيزنطي، بينما خدم العديد من الروس في الجيش البيزنطي كمرتزقة ومن أشهرهم الحرس الفارانجي.[119] إلا أنه وبعد تنصير الروس لم تكن العلاقات ودية دائمًا. كان أكثر النزاعات جدية بين القوتين حرب 968-971 في بلغاريا، ولكن سُجّلت عدة غارات روسيّة على المدن البيزنطية على ساحل البحر الأسود والقسطنطينية ذاتها. ومع أن العديد من تلك الغارات قد صُدّت، فقد تبعتها عادةً اتفاقيات كانت في غالبها لصالح الروس مثل تلك التي أنهت حرب 1043، والتي أظهر فيها الروس طموحاتهم في منافسة البيزنطيين كقوة مستقلة.[121]

الحملات على القوقاز[عدل]

بين عامي 1021 و1022 بعد عدة سنوات من التوترات قاد باسيل الثاني سلسلةً من الحملات العسكرية ضد مملكة جورجيا انتهت بالانتصار، مما أدى إلى ضم عدّة مقاطعات جورجية إلى الإمبراطورية. سيطرَ خلفاء باسيل على باغراتيد أرمينيا في عام 1045 وضمّوها أيضًا. والأهم من ذلك أن جورجيا وأرمينيا ضعفتا كثيرًا بسبب سياسة الضرائب الباهظة وإلغاء التجنيد اللتين اتبعتهما بيزنطة، وقد لعبَ ذلك الضعف دورًا مهمًا في هزيمة البيزنطيين في معركة ملاذكرد عام 1071.[122]

الذروة[عدل]

أصبحت القسطنطينية أكبر وأغنى مدينة في أوروبا من القرن التاسع حتى القرن الثاني عشر.

مع وفاة باسيل الثاني عام 1025 كانت الإمبراطورية امتدّت من أرمينيا شرقًا إلى كالابريا في جنوب إيطاليا غربًا.[118] جرى تحقيق العديد من النجاحات من غزو بلغاريا، وضم أجزاء من جورجيا وأرمينيا، وإعادة غزو كريت وقبرص وأنطاكية. لم تكن تلك مكاسب تكتيكية مؤقتة وإنما فتوحات ذات مدى بعيد.[123]

أنجز ليو السادس (حكم 886-912) نقلًا كاملًا للقانون البيزنطي إلى اليونانية. أصبح هذا الإنجاز الباهر من 60 مجلدًا أساس القانون البيزنطي التالي ولايزال يدرس حتى الآن.[124] كما أعاد ليو تشكيل الإدارة في الإمبراطورية حيث أعاد رسم حدود الإدارات (البنود) ورتب نظام الامتيازات والأفضليات، كما نظم أنشطة غرف التجارة المتعددة في القسطنطينية. ساهمت إصلاحات ليو جدًا في تقليل تشتت الإمبراطورية، فأصبح لها مركز قوة وحيد حينها هو القسطنطينية.[125] إلا أن النجاح العسكري المستمر للإمبراطورية أثرى النبلاء في المقاطعات وقوّاهم مقارنة بالقرويين الذين تحولوا إلى نوع من العبودية.[126]

جدارية لكيرلس وميثوديوس من القرن التاسع عشر في دير ترويان في بلغاريا.

تحت حكم الأباطرة المقدونيين ازدهرت مدينة القسطنطينية لتصبح أكبر مدن أوروبا وأغناها حيث تجاوز تعداد سكانها 400,000 شخص في القرنين التاسع والعاشر.[127] خلال تلك الفترة وظفت الإمبراطورية البيزنطية خدمة مدنية قوية يعمل بها أرستقراطيون أكفاء يشرفون على جمع الضرائب والإدارة المحلية والسياسة الخارجية. كما عزز الأباطرة المقدونيون ثراء الإمبراطورية بروابط تجارية مع أوروبا الغربية وبالأخص عبر مبيعات الحرير والصناعات المعدنية.[128] تُعرف هذه الفترة أيضًا باسم عصر الموسوعات البيزنطية بسبب محاولات تنظيم المعرفة وتدوينها بأسلوب منهجي، والتي تمثلت في أعمال الإمبراطور الباحث قسطنطين السابع.[129][130] كان هناك نمو كبير في مجال التعليم والتعلم ممثلة بجامعة القسطنطينية ومكتبة القسطنطينية وجرى الحفاظ على النصوص القديمة وإعادة نسخها. كما ازدهر الفن البيزنطي وانتشرت الفسيفساء الرائعة في تزيين العديد من الكنائس الجديدة.[131] وكان المحتوى الرئيسي للتعليم العالي لمعظم الطلاب هو الخطابة والفلسفة والقانون بهدف تكوين موظفين أكفاء ومتعلمين لشغل المناصب البيروقراطية للدولة والكنيسة.[131] بهذا المعنى كانت جامعة القسطنطينية هي المعادل العلماني للمدارس اللاهوتية والرهبانية في الإمبراطوريَّة.[131] حافظت جامعة القسطنطينية على تقليد فلسفي نشط للأفلاطونية والأرسطية فكانت الأولى هي أطول مدرسة أفلاطونية غير منقطعة استمرت لما يقرب من ألفي عام حتى القرن الخامس عشر.[131]

شمل العهد المقدوني أحداثًا ذات أهمية دينية أيضًا. كان تنصير البلغار والصرب والروس وتحويلهم إلى المسيحية الأرثوذكسية الشرقية بصفة دائمة قد غير الخريطة الدينية لأوروبا ولايزال صداه حتى يومنا هذا. ساهم كيرلس وميثوديوس -وهما أخوان يونانيان بيزنطيان من سالونيك- بدرجة كبيرة جدًا في تنصير السلافيين والعملية التي طورت الأبجدية الغلاغوليتية، وهي سلف الأبجدية الكيريلية.[132] عزز هذا مكانة الأخوين اليونانيين كيرلس وميثوديوس باعتبارهما رائدين في الأدب السلافي واللذين قدما الحضارة البيزنطية والمسيحية الأرثوذكسية إلى السلاف الأميين والوثنيين حتى الآن. ونتيجة للنشاط التبشيري للأخوين انتشر التقليد الليتورجي والأدبي والمعماري البيزنطي في البلقان وأضحت في فلك النفوذ الثقافي البيزنطي.[133]

الانشقاق العظيم[عدل]

وصلت العلاقات بين الشرق اليوناني والغرب اللاتيني ضمن الكنيسة المسيحية في عام 1054 إلى أزمة نهائية عُرفت باسم الانشقاق العظيم.[134] كان الانشقاق العظيم نتيجة عقود من الانفصال التدريجي،[135] وكانت أهم أسبابه التنافس المستمر بين كرسي القسطنطينية وكرسي روما، والنفوذ الجرماني في الغرب، والخلاف حول سلطة البابا وحول تقدّمه في الكرامة والاحترام على باقي الأساقفة، ومشكلة انبثاق الروح القدس حيثُ أمر البابا في القرن التاسع بإضافة عبارة «ومن الابن» على قانون الإيمان النيقاوي والتي كانت تستعملها جماعات مسيحية غربيّة، بالإضافة لخلافات حول طقوس غربية مثل صوم السبت والتقديس على الفطير. بدأ النزاع برسائل متبادلة قاسية بين الطرفين، تلاها زيارة وفد بابوي مُفاوض إلى القسطنطينية، وفي 16 يوليو 1054 دخل ثلاثة مندوبين بابويين إلى آيا صوفيا خلال القداس الإلهي بعد ظهر يوم سبت ووضعوا وثيقة حرمان لكرسي القسطنطينية على مذبح الكنيسة.[136][134]

الأزمة والانقسام[عدل]

سقطت الإمبراطورية بعد ذلك في فترة من الصعوبات كان سببها لحد ما تقويض نظام البنود والإهمال العسكري. غيّر نقفور الثاني (حكم 963-969) ويوحنا زيمسكي وباسيل الثاني التقسيمات العسكرية من جيش مدني دفاعي سريع التحرك إلى قوة محترفة جاهزة للحملات العسكرية مجهزة بالمرتزقة. إلا أن المرتزقة كانوا جنودًا مكلفين ومع تراجع تهديدات الغزو في القرن العاشر تراجعت الحاجة للحفاظ على حاميات كبيرة وتحصينات مكلفة.[137] ترك باسيل الثاني خزينة الدولة ممتلئة عند وفاته ولكنه أهمل مسألة الخلافة. لم يكن لدى أي من خلفائه المهارة العسكرية أو السياسية ووقع عبء إدارة الإمبراطورية كليًا على الخدمة المدنية. لم ينجم عن محاولات إعادة إحياء الاقتصاد البيزنطي سوى التضخم وفقدان العملة الذهبية لقيمتها. أصبح الجيش عبئًا ثقيلًا غير ضروري وخطرًا سياسيًا. لذلك جرى صرف القوات المحلية واستبدلت بها قوات من المرتزقة بعقود محددة.[138]

ضمُّ البيزنطيين الرها في سوريا سنة 1031 بقيادة جورج مانياكيس، والهجوم العربي المضاد.

في ذات الوقت واجهت الإمبراطورية عدوًا جديدًا. واجهت المقاطعات في جنوب إيطاليا النورمان الذي قدموا إلى إيطاليا في بدايات القرن الحادي عشر. خلال فترة النزاع بين القسطنطينية وروما التي انتهت بالانقسام بين الشرق والغرب بدأ النورمان تقدمهم ببطءٍ ولكن بثباتٍ في إيطاليا البيزنطية.[139] سقطت ريدجو عاصمة تاغما كالابريا عام 1060 بيد روبرت جيسكارد وتبعتها أوترانتو في عام 1068. خضعت باري وهي المعقل البيزنطي الرئيسي في بوليا للحصار في أغسطس 1068 وسقطت في أبريل 1071.[140] كما شهد البيزنطيون انهيار سيطرتهم على مدن الساحل الدلماسي لصالح بيتر كريشيمير الرابع الكرواتي (حكم 1058-1074/1075) في 1069.[141]

في حوالي العام 1053 حلّ قسطنطين التاسع ما يسميه المؤرخ جون سكيليتسيس «الجيش الإيبيري»، الذي كان يتألف من 50,000 رجل، وحوّلهم إلى قوات نخبة تعمل حرسًا للإمبراطور. يُشير المؤرخون إلى أن تسريح هؤلاء الجنود تسبب في إلحاق ضرر كارثي بالدفاعات الشرقية للإمبراطورية، إلا أن أكبر الكوارث التي أصابت الإمبراطورية جرت في الأناضول حيث بدأ السلاجقة الأتراك أولى حملاتهم الاستكشافية عبر الحدود البيزنطية إلى أرمينيا في عامي 1065 و1067. قدّمت هذه الحالة الطارئة الدعم للأرستقراطية العسكرية في الأناضول والتي أمنت عام 1068 انتخاب أحد أفرادها رومانوس الرابع ديوجينيس إمبراطورًا لبيزنطة. في صيف 1071 شن رومانوس حملة شرقية ضخمة لدفع السلاجقة إلى اشتباك عام مع الجيش البيزنطي. في معركة ملاذكرد تلقّى رومانوس هزيمة مفاجئة على يد السلطان ألب أرسلان، وسقط في قبضة الأسر. عامله ألب أرسلان باحترام، ولم يفرض شروطًا ثقيلة على البيزنطيين.[138] إلا أنه في القسطنطينية جرى انقلاب لصالح ميخائيل دوكاس الذي واجهَ معارضةً من نقفور برينيوس ونقفور الثالث بوتانياتيس. بحلول 1081 وسع السلاجقة حكمهم عمليًا على كامل الهضبة الأناضولية من أرمينيا شرقًا إلى بيثينيا غربًا، وأسسوا عاصمتهم في نيقية على بعد 90 كيلومترًا من القسطنطينية.[142]

السلالة الكومنينية والصليبيون[عدل]

ألكسيوس الأول مؤسس السلالة الكومنينية.

تعرف الفترة بين عامي 1081-1185 عادة باسم العهد الكومنيني نسبةً للسلالة الكومنينية. حكم أباطرة آل كومنين الخمسة (ألكسيوس الأول ويوحنا الثاني وعمانوئيل الأول وألكسيوس الثاني وأندرونيكوس الأول) 104 عامًا مشرفين على استعادة ثابتة ولكن غير كاملة للوضع العسكري والتوسعي والاقتصادي والسياسي للإمبراطورية البيزنطية.[143] ومع أن السلاجقة الأتراك احتلّوا الأناضول وهو قلب الإمبراطورية، فإن أغلب الجهود العسكرية البيزنطية قد وجهت ضد القوى الغربية وبالأخص النورمان.[143] لعبت الإمبراطورية تحت حكم آل كومنين دورًا هامًا في الحروب الصليبية والتي ساهم ألكسيوس الأول في تسهيل مهمتها، كما مارست الإمبراطورية نفوذًا سياسيًا وثقافيًا هائلًا على أوروبا والشرق الأدنى والأراضي المحيطة بالمتوسط في عهدي يوحنا الثاني وعمانوئيل الأول. ازداد أيضًا الاتصال بين بيزنطة والغرب «اللاتيني» بما فيه الدويلات الصليبية خلال العهد الكومنيني. أصبح البنادقة وغيرهم من التجار الإيطاليين من المقيمين في القسطنطينية والإمبراطورية بأعداد كبيرة (قدر وجود 60,000 لاتيني في القسطنطينية وحدها التي بلغ تعداد سكانها ثلاثمئة أو أربعمئة ألف شخص) حيث ساهم وجودهم بالإضافة إلى الأعداد الكبيرة من المرتزقة اللاتين الذين وظفهم عمانوئيل الأول في نشر الفن والأدب والثقافة البيزنطية في الغرب اللاتيني بينما قاد أيضًا إلى تدفق الأفكار والعادات الغربية إلى الإمبراطورية.[144] أما بخصوص حياة الازدهار والثقافة فكان العهد الكومنيني إحدى الذرا البيزنطية.[145] وظلت القسطنطينية في عهدهم المدينة الرائدة في العالم المسيحي من حيث الحجم والثراء والثقافة.[14] كما تجدد الاهتمام بالفلسفة الإغريقية الكلاسيكية، بالإضافة إلى تزايد الناتج الأدبي باليونانية العامية.[131] احتل الأدب والفن البيزنطيان مكانة بارزة في أوروبا حيث كان التأثير الثقافي للفن البيزنطي على الغرب خلال هذه الفترة هائلًا وذا أهمية طويلة الأمد.[146]

ألكسيوس الأول والحملة الصليبية الأولى[عدل]

تحتوي كنيسة خورا -التي يعود تاريخها إلى العصر الكومني- على بعضٍ من أرقى اللوحات الجدارية والفسيفساء البيزنطية.

بعد معركة ملاذكرد (1171) أصبح التعافي الجزئي (المشار إليه باسم استعادة كومنيني) ممكنًا من قِبل سلالة آل كومنين.[147] وصل الكومنينيون إلى السلطة مرة أخرى تحت قيادة ألكسيوس الأول في عام 1081. ومنذ بداية حكمه واجه هجومًا هائلاً شنّهُ النورمان بقيادة روبرت جيسكارد وابنه بوهيموند الأول والذين استولوا على ديرهاخيوم وكورفو، وفرضوا حصارًا على لاريسا في ثيساليا. خففت وفاة روبرت جيسكارد عام 1085 مؤقتًا من مشكلة النورمان. في العام التالي توفي السلطان السلجوقي، وانقسمت السلطنة السلجوقية بسبب الخصومات الداخلية. بفضل جهوده الخاصة هزم ألكسيوس البجناك. قُبضَ عليهم على حين غرة وأُبيدوا في معركة ليفونيون في 28 أبريل 1091.[148]

الإمبراطورية البيزنطية ودولة سلاجقة الروم قبل الحملة الصليبية الأولى (1095-1099)

بعد تحقيق الاستقرار في الغرب حوّل ألكسيوس الأول انتباهه إلى الصعوبات الاقتصادية الشديدة وتفكك الدفاعات التقليدية للإمبراطورية.[149] ومع ذلك لم يكن لديه ما يكفي من القوة البشرية لاستعادة الأراضي المفقودة في الأناضول والتقدم ضد السلاجقة. وأشار المؤرخان بروس واتسون وإدوارد بيترز أنه في مجمع بياتشنزا الكاثوليكي الذي عُقد عام 1095 تحدث مبعوثو ألكسيوس إلى البابا أوربانوس الثاني حول «معاناة مسيحيي الشرق»،[150][151] وأكدوا أنهم بدون مساعدة من الغرب ستستمر معاناتهم تحت الحكم الإسلامي.[150]

رأى أوربانوس في طلب ألكسيوس فرصة مزدوجة لتدعيم أوروبا الغربية وإعادة توحيد الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية مع الكنيسة الرومانية الكاثوليكية تحت حكمه.[150] في 27 نوفمبر 1095 دعا البابا أوربانوس الثاني لعقد مجمع كليرمون، وحثّ جميع الحاضرين على حمل السلاح تحت راية الصليب وإطلاق رحلة حج مسلح لاستعادة القدس والشرق من المسلمين. كانت الاستجابة في أوروبا الغربية ساحقة.[142]

توقع ألكسيوس الأول المساعدة على شكل قوات مرتزقة من الغرب، لكنه لم يكن مستعدًا تمامًا للقوة الهائلة وغير المنضبطة التي سرعان ما وصلت إلى الأراضي البيزنطية، ولم يشعر بالراحة عندما علم أن أربعة من القادة الثمانية للكتلة الرئيسية للحملة الصليبية كانوا من النورمان ومن بينهم بوهيموند. منذ اضطرت الحملة إلى المرور عبر القسطنطينية كان للإمبراطور بعض السيطرة عليها. لقد طلب من قادتها أن يقسموا على أن يعيدوا إلى الإمبراطورية أي مدن أو مناطق قد يعيدون احتلالها من الأتراك في طريقهم إلى الأرض المقدسة. وبالمقابل أعطاهم أدلة ومرافقة عسكرية.[152]

تمكن ألكسيوس الأول من استعادة عدد من المدن والجزر المهمة وجزء كبير من غرب الأناضول. وافق الصليبيون على أن يصبحوا تابعين لألكسيوس بموجب معاهدة ديفول عام 1108، والتي كانت نهايةً لتهديد النورمان خلال فترة حكمه.[153]

يوحنا الثاني وعمانوئيل الأول والحملة الصليبية الثانية[عدل]

فسيفساء من آيا صوفيا، القسطنطينية (إسطنبول حاليًا)، تصوّر مريم العذراء ويسوع، يحيط بهم يوحنا الثاني كومنين (يسار) وزوجته إيرين المجرية (يمين)، (القرن الثاني عشر).
الإمبراطورية البيزنطية باللون البرتقالي، ثمانينات القرن الثاني عشر أواخر حقبة آل كومنين.

خلف يوحنا الثاني كومنين (حكم 1118-1143) والده ألكسيوس الأول. كان يوحنا إمبراطورًا تقيًا ومخلصًا، وكان مصممًا على إصلاح الضرر الذي لحق بالإمبراطورية في معركة ملاذكرد قبل نصف قرن.[154] اشتهر يوحنا بوجهٍ ملحوظٍ بتقواه وحكمه المعتدل والعادل، وكان مثالًا استثنائيًا للحاكم الأخلاقي في وقت كانت فيه القسوة هي القاعدة.[155] لهذا السبب أُطلق عليه ماركوس أوريليوس البيزنطي.

خلال فترة حكمه التي استمرت خمسة وعشرين عامًا أقام يوحنا تحالفات مع الإمبراطورية الرومانية المقدسة في الغرب وهزم بطريقة حاسمة البجناك في معركة بيرويا،[156] وأحبط التهديدات المجرية والصربية خلال عشرينيات القرن الحادي عشر، وفي عام 1130 تحالف مع الإمبراطور الألماني لوثر الثالث ضد روجر الثاني ملك صقلية النورماندي.[157]

في الجزء الأخير من عهده ركز يوحنا أنشطته على الشرق، وقاد شخصيًا العديد من الحملات ضد الأتراك في الأناضول. غيّرت حملاته بوجه أساسي ميزان القوى في الشرق، مما أجبر الأتراك على الدفاع، بينما أعاد العديد من البلدات والحصون والمدن عبر شبه الجزيرة إلى البيزنطيين. هزم إمارة الدانشمنديين في ملطية وأعاد احتلال قيليقية بأكملها، بينما أجبر ريموند الثاني أمير أنطاكية على الاعتراف بالسيادة البيزنطية. وفي محاولة لإثبات دور الإمبراطور قائدًا للعالم المسيحي سار يوحنا إلى الأراضي المقدسة على رأس القوات المشتركة للإمبراطورية والدول الصليبية؛ ومع أنه أبدى نشاطًا كبيراً في الحملة، إلا أن آماله خابت بفعل خيانة حلفائه الصليبيين.[158] عام 1142 عاد يوحنا للضغط بشأن مطالباته بأنطاكية وكانت كونتية صليبية، لكنه توفي في ربيع عام 1143 بعد حادث صيد.

كان وريث يوحنا المختار هو ابنه الرابع عمانوئيل كومنينوس الذي شن حملة عدوانية ضد جيرانه في كل من الغرب والشرق. في فلسطين تحالف عمانوئيل مع مملكة بيت المقدس الصليبية وأرسل أسطولًا كبيرًا للمشاركة في غزو مشترك لمصر الفاطمية. عزز عمانوئيل موقعه حاميًا للدول الصليبية مع هيمنته على أنطاكية والقدس باتفاق مع أرناط أمير أنطاكية، وعموري الأول ملك القدس.[159] في محاولة لاستعادة السيطرة البيزنطية على موانئ جنوب إيطاليا أرسل رحلة استكشافية إليها عام 1155، لكن الخلافات داخل التحالف أدت إلى فشل الحملة في نهاية المطاف. وبالرغم من هذه النكسة العسكرية نجحت جيوش عمانوئيل في غزو المناطق الجنوبية من مملكة المجر عام 1167، وهزمت المجريين في معركة سيرميوم. بحلول عام 1168 كان ما يقرب من كامل الساحل الشرقي للبحر الأدرياتيكي وقع في يد عمانوئيل.[160] أقام عمانوئيل عدة تحالفات مع البابا والممالك المسيحية الغربية، ونجح في إمرار الحملة الصليبية الثانية عام 1145 عبر إمبراطوريته.[161]

في الشرق عانى عمانوئيل من هزيمة كبرى في عام 1176 في معركة ميريوكيفالون ضد الأتراك. ومع ذلك استُرِدَّت الخسائر بسرعة، وفي العام التالي ألحقت قوات عمانوئيل هزيمة بقوةٍ من نخبة المقاتلين الأتراك.[162] لم يُحضر القائد البيزنطي جون فاتاتزيس الذي دمر الغزاة الأتراك في معركة هيليون وليموشير القوات من العاصمة فحسب، بل تمكن أيضًا من حشد جيش على طول الطريق في إشارة إلى أن الجيش البيزنطي ظل قويًا وأن النظام الدفاعي غرب الأناضول لايزال ناجحًا.[163]

عصر النهضة في القرن الثاني عشر[عدل]

رثاء المسيح (1164)، لوحة جدارية من كنيسة القديس بانتيليمون في نيريزي-مقدونيا الشمالية، تعتبر مثالًا رائعًا للفن الكومنيني في القرن الثاني عشر.

خلال القرن الثاني عشر شهدت حضارة الإمبراطورية البيزنطية فترة من التغيير والتطور المكثف، ما حدا ببعض المؤرخين للإشارة إلى «عصر نهضة» في القرن الثاني عشر في الإنجاز الثقافي والفكري البيزنطي.[146][164] كانت هذه التغييرات مهمةً خصوصًا في مجالين من مجالات الحضارة البيزنطية؛ ازدهارها الاقتصادي، وإنجازاتها الفنية.[146]

اتبع يوحنا الثاني وعمانوئيل الأول سياساتٍ عسكريةً نشطةً، واستخدم كلاهما مواردَ كبيرةً في عمليات الحصار ودفاعات المدينة، وكانت سياسات التحصين العدوانية في جوهر سياساتهم العسكرية الإمبريالية.[165] بغض النظر عن هزيمة ميريوكيفالون أدت سياسات ألكسيوس الأول ويوحنا الثاني وعمانوئيل الأول إلى مكاسب إقليمية واسعة، وزيادة الاستقرار الحدودي في الأناضول، وتأمين استقرار الحدود الأوروبية للإمبراطورية. من ثمانينات القرن الحادي عشر إلى ثمانينات القرن الثاني عشر حافظ جيش آل كومنين على أمن الإمبراطورية، مما مكن الحضارة البيزنطية من الازدهار.[166]

سمح ذلك للمقاطعات الغربية بتحقيق انتعاش اقتصادي استمر حتى نهاية القرن. لقد قيل إن بيزنطة تحت الحكم الكومنيني كانت أكثر ازدهارًا من أي وقت مضى منذ الغزوات الفارسية في القرن السابع. خلال القرن الثاني عشر ارتفعت مستويات دخل السكان، ودخلت مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية الجديدة في الإنتاج. تظهر الأدلة الأثرية من كل من أوروبا والأناضول زيادة كبيرة في حجم المستوطنات الحضرية إلى جانب زيادة ملحوظة في المدن الجديدة، كما كانت التجارة مزدهرة. فتح سكان البندقية وجنوا وغيرهم موانئ بحر إيجة للتجارة وشحن البضائع من مملكتي بيت المقدس (آوترمر) (بالإنجليزية: Outremer)‏ ومصر الفاطمية إلى الغرب والتداول مع الإمبراطورية عبر القسطنطينية.[167]

أثّرت الثروة الجديدة -التي تولدت خلال هذه الفترة- إيجابًا على الحياة الثقافية البيزنطية. من الناحية الفنية كان هناك إحياء في فن الفسيفساء، وبدأت المدارس الإقليمية للهندسة المعمارية في إنتاج العديد من الأساليب المميزة التي استندت إلى مجموعة من التأثيرات الثقافية.[168] خلال القرن الثاني عشر قدم البيزنطيون نموذجهم للنهضة الإنسانية المبكرة؛ نهضةً في الاهتمام بالمؤلفين الكلاسيكيين. وجدت الإنسانية البيزنطية تعبيرها الأكثر تميزًا في أستاثيوس التسالونيكي. وفي الفلسفة كانت هناك عودة للتعلم الكلاسيكي لم يُشهد مثلها منذ القرن السابع، تميزت بزيادة كبيرة في نشر التعليقات على الأعمال الكلاسيكية.[131] إلى جانب ذلك حدث النقل الأول للمعرفة اليونانية الكلاسيكية إلى الغرب خلال الفترة الكومنينية.[146]

عمومًا نظرًا لزيادة عدد السكان والازدهار الكبير في هذه الفترة يبدو أن الانتعاش الاقتصادي في بيزنطة قد عزز الأساس الاقتصادي للدولة. يساعد هذا في تبيان كيف تمكن أباطرة الأسرة الكومنينية (عمانوئيل كومنينوس على وجه الخصوص) من إبراز قوتهم وتأثيرهم على نطاق واسع في هذا الوقت.[146] حيث عمل على استعادة الإمبراطورية البيزنطية إلى سالف أمجادها قوةً عظمى في منطقة البحر الأبيض المتوسط، ومع ذلك فإن هذا لم يكن الأثر الوحيد للتوسع الاقتصادي في الإمبراطورية، فقد كان التأثير على الثقافة والمجتمع البيزنطيين عميقًا أيضًا.

الانحدار والتفكك[عدل]

سلالة أنجيلوس[عدل]

بيزنطة أواخر فترة سلالة أنجيلوس.

تركت وفاة عمانوئيل الأول كومنينوس في 24 سبتمبر 1180 ابنه ألكسيوس الثاني كومنينوس البالغ من العمر 11 عامًا على العرش. كان ألكسيوس غير كفء للغاية في المنصب، ولم تكن وصاية والدته ماريا الأنطاكية على العرش محبوبة بين الناس بسبب خلفيّتها الفرنجية.[169] في النهاية أطلق أندرونيكوس الأول كومنينوس حفيد ألكسيوس الأول ثورة ضد قريبه الأصغر وتمكن من الإطاحة به في انقلاب عنيف.[170] مستغلًا مظهره الجميل وشعبيته الهائلة في الجيش سار إلى القسطنطينية في أغسطس 1182 وحرض على مذبحة ضد اللاتين.[170] وبعد القضاء على منافسيه المحتملين توج نفسه إمبراطورًا مشاركًا في سبتمبر 1183. وأزاح ألكسيوس الثاني وأخذ زوجته الفرنسية أغنيس البالغة من العمر 12 عامًا لنفسه.[170]

بدأ أندرونيكوس حكمه جيدًا، وأشاد المؤرخون على الخصوص بالإجراءات التي اتخذها لإصلاح حكومة الإمبراطورية. وفقًا لجورج أوستروغورسكي كان أندرونيكوس مصممًا على استئصال الفساد؛ ففي ظل حكمه توقف بيع المكاتب؛ كان الاختيار على أساس الجدارة وليس المحسوبية؛ دُفعت رواتب مناسبة للمسؤولين للحد من إغراء الرشوة. وفي المقاطعات أدت إصلاحات أندرونيكوس إلى تحسن سريع وملحوظ.[171] كان الأرستقراطيون غاضبين منه، ومما زاد الطين بلة أن أندرونيكوس أصبح غير متزن على نحو متزايد؛ وأصبحت عمليات الإعدام والعنف شائعة بدرجة متزايدة، وتحول عهده إلى عهد الرعب.[172] بدا أندرونيكوس يسعى لإبادة الطبقة الأرستقراطية ككل. تحول النضال ضد الطبقة الأرستقراطية إلى مذابح جماعية، بينما لجأ الإمبراطور إلى المزيد من الإجراءات القاسية لتدعيم نظامه.[171]

ومع أنه ذو خلفية عسكرية فشل أندرونيكوس في التعامل مع إسحاق كومنينوس، وبيلا الثالث ملك المجر (حكم 1172-1196) الذي أعاد ضمّ كرواتيا إلى المجر، وستيفن نيمانيا من صربيا (حكم 1166-1196) الذي أعلن استقلاله عن الإمبراطورية البيزنطية. ومع ذلك لايمكن مقارنة أي من هذه المشاكل مع قوة ويليام الثاني ملك صقلية (حكم 1166-1189) الغازية، والمكونة من 300 سفينة و80,000 رجل، والتي وصلت عام 1185.[173] حشد أندرونيكوس أسطولًا صغيرًا من 100 سفينة للدفاع عن العاصمة، كما لم يكن مباليًا بالسكان. أُطيحَ به أخيرًا عندما استولى إسحاق أنجيلوس -بعدما نجا من محاولة اغتيال إمبراطورية- على السلطة بمساعدة الشعب وقتل أندرونيكوس[174] عام 1185.

شهد عهد إسحاق الثاني وكذلك عهد أخيه ألكسيوس الثالث انهيار ما تبقى من الآلية المركزية للحكومة والدفاع البيزنطيين. مع أن النورمانديين طُردوا من اليونان، لكن في عام 1186 بدأ الفلاش والبلغار تمردًا أدى إلى تشكيل الإمبراطورية البلغارية الثانية. تميزت السياسة الداخلية لسلالة أنجيلوس بتبديد الثروة العامة وسوء الإدارة المالية. ضعفت السلطة الإمبراطورية بشدة، وشجع الفراغ المتزايد في وسط الإمبراطورية على التجزئة. هناك أدلة على أن بعض ورثة آل كومنين أقاموا دولة شبه مستقلة في طرابزون قبل عام 1204.[175] وفقًا لأليكساندر فاسيليف: «سلالة أنجيلوس اليونانية الأصل، ... عجلت من خراب الإمبراطورية، التي أضعفت بالفعل في الخارج وانفصلت من الداخل.»[176]

الحملة الصليبية الرابعة[عدل]

لوحة «دخول الصليبيين إلى القسطنطينية»، بريشة ديلاكروا (1840).

في عام 1198 تطرق البابا إينوسنت الثالث إلى موضوع حملة صليبية جديدة عبر المندوبين والرسائل العامة.[177] كان الهدف المعلن للحملة هو غزو مصر التي أصبحت حينها مركز القوة الإسلامية في المشرق. وصل الجيش الصليبي إلى البندقية صيفَ عام 1202 واستأجر أسطولها لنقل أفراده إلى مصر. ولمكافأة البنادقة استولى الصليبيون على ميناء زارا (المسيحي) في دالماسيا (مدينة تابعة للبندقية تمردت ووضعت نفسها تحت حماية المجر عام 1186).[178] بعد ذلك بوقت قصير أجرى ألكسيوس أنجيلوس -نجل الإمبراطور المخلوع والكفيف إسحاق الثاني أنجيلوس- اتصالاتٍ مع الصليبيين. عرض ألكسيوس إعادة توحيد الكنيسة البيزنطية مع روما، ودفع 200 ألف مارك فضية للصليبيين، والانضمام إلى الحملة الصليبية، وتوفير كل الإمدادات التي يحتاجونها للوصول إلى مصر.[179] بغية تمكينه من استعادة العرش.

نهب الصليبيين للقسطنطينية (1204)[عدل]

تقسيم الإمبراطورية في أعقاب الحملة الصليبية الرابعة، في حدود 1204.

وصل الصليبيون إلى القسطنطينية في صيف عام 1203 وهاجموا بسرعة، مما أدى إلى اندلاع حريق كبير دمر أجزاء كبيرة من المدينة، واستولوا عليها لفترة وجيزة. فرَّ ألكسيوس الثالث من العاصمة وارتقى ألكسيوس الرابع أنجيلوس العرش مع والده الكفيف إسحاق الثاني. لم يتمكن ألكسيوس الرابع ووالده من الوفاء بوعودهما وخلعهما ألكسيوس الخامس. استولى الصليبيون على المدينة مرة أخرى في 13 أبريل 1204 وتعرضت القسطنطينية للنهب والمذابح ثانية لمدة ثلاثة أيام. ظهرت العديد من الأيقونات والآثار وغيرها من الأشياء التي لاتقدر بثمن في وقت لاحق في أوروبا الغربية، وعدد كبير منها في البندقية. وفقًا لشوناتس عُيّنَت عاهرة على العرش البطريركي.[180] عندما استُعيدَ النظام شرع الصليبيون والبنادقة في تنفيذ اتفاقهم؛ انتُخبَ بالدوين الأول إمبراطورًا على الإمبراطورية اللاتينية الجديدة واختيرَ توماس موروسيني البندقي بطريركًا. تضمنت الأراضي المقسمة بين القادة معظم الممتلكات البيزنطية السابقة، مع أن المقاومة استمرّت في أنحاء الإمبراطورية المتبقية في نيقية، طرابزون، وإبيروس.[181] ومع أن البندقية كانت مهتمة بالتجارة أكثر من احتلال الأراضي، إلا أنها احتلت مناطق رئيسية في القسطنطينية وحصل دوق البندقية على لقب «سيّد ربع ونصف ربع الإمبراطورية الرومانية».[182]

السقوط[عدل]

الإمبراطورية في المنفى[عدل]

بعد نهب الصليبيين القسطنطينية عام 1204 أُنشئت ولايتان خليفتان لبيزنطة: إمبراطورية نيقية وديسبوتية إبيروس. وأُنشئت الثالثة إمبراطورية طرابزون بقيادة ألكسيوس كومنينوس، قائد الحملة الجورجية في الخالدية.[183] قبل أسابيع قليلة من نهب القسطنطينية وجد ألكسيوس نفسه إمبراطورًا بحكم الأمر الواقع، ونصّب نفسه على طرابزون. من بين الولايات الثلاث الخليفات حظيت إبيروس ونيقية بأفضل فرصة لاستعادة القسطنطينية. كافحت إمبراطورية نيقية لتبقى موجودة خلال العقود القليلة التالية، وبحلول منتصف القرن الثالث عشر كانت فقدت الكثير من الأراضي في جنوب الأناضول.[184] سمح ضعف دولة سلاجقة الروم بعد الغزو المغولي في 42-1243 للكثير من الأمراء والغزاة بتأسيس إماراتهم الخاصة في الأناضول، مما أضعف سيطرة البيزنطيين على آسيا الصغرى.[185] مع الوقت أنشأ أحد الأمراء؛ عثمان الأول إمبراطورية من شأنها أن تغزو القسطنطينية في نهاية المطاف. وبالرغم من ذلك أعطى الغزو المغولي نيقية أيضًا فترة راحة مؤقتة من هجمات السلاجقة، مما سمح لها بالتركيز على الإمبراطورية اللاتينية في شمالها.

استعادة القسطنطينية[عدل]

الإمبراطورية البيزنطية، حوالي 1263.

استطاعت إمبراطورية نيقية -التي أسستها سلالة لاسكاريس- أن تلعب دورًا في استعادة القسطنطينية من اللاتين في عام 1261 وهزيمة إبيروس. أدى ذلك إلى إحياء قصير الأمد لبيزنطة تحت حكم ميخائيل الثامن باليولوج، لكن الإمبراطورية التي دمرتها الحرب لم تكن مجهزة للتعامل مع الأعداء الذين أحاطوا بها. سحب ميخائيل القوات من الأناضول للحفاظ على حملته ضد اللاتين وفرض ضرائب باهظة على الفلاحين، مما تسبب باستياء شديد.[186] انتهت مشاريع البناء الضخمة في القسطنطينية لإصلاح أضرار الحملة الصليبية الرابعة، لكن أيًا من هذه المبادرات لم تكن مصدر ارتياح للمزارعين في الأناضول الذين عانوا من غارات الغزاة المسلمين.[187]

بدلاً من الاحتفاظ بممتلكاته في آسيا الصغرى اختار ميخائيل توسيع الإمبراطورية، وحقق نجاحًا قصير المدى فقط. وأجبر الكنيسة على الخضوع لروما كحلّ مؤقت لتجنب نهب اللاتين للعاصمة مرة أخرى، وبسبب ذلك كره القرويون ميخائيل والقسطنطينية.[187] كانت جهود أندرونيكوس الثاني ولاحقًا حفيده أندرونيكوس الثالث تمثل آخر محاولات بيزنطة الحقيقية لاستعادة مجد الإمبراطورية. ومع ذلك فإن استخدام أندرونيكوس الثاني للمرتزقة غالبًا ماأتى بنتائج عكسية، مع تخريب الشركة القطلونية للريف وتزايد الاستياء تجاه القسطنطينية.[188]

صعود العثمانيين وسقوط القسطنطينية[عدل]

«حاشا لي أن أعيش إمبراطورًا بدون إمبراطورية. عندما تسقط مدينتي سوف أسقط معها. من أراد الهرب فلينقذ نفسه إن استطاع، ومن كان مستعدًا لمواجهة الموت فليتبعني.» – قسطنطين الحادي عشر[189]

أصبح الوضع أسوأ بالنسبة لبيزنطة خلال الحروب الأهلية بعد وفاة أندرونيكوس الثالث (حكم 28-1341). دمرت حرب أهلية دامت ست سنوات (41-1347) الإمبراطورية، مما سمح للحاكم الصربي ستيفان دوشان (حكم 31-1346) باجتياح معظم أراضيها المتبقية وإنشاء الإمبراطورية الصربية. عام 1354 دمر زلزال في كليبولي الحصن، مما سمح للعثمانيين (الذين عيّنهم يوحنا السادس قانتاقوزن مرتزقةً خلال الحرب الأهلية) بإقامة كيانهم في أوروبا.[190] بحلول الوقت الذي انتهت فيه الحروب الأهلية البيزنطية هزم العثمانيون الصرب وأخضعوهم أتباعًا. بعد معركة قوصوه (1389) التي قُتل بها السلطان مراد الأول (حكم 60-1389) أصبح العثمانيون يسيطرون على كثير من مناطق البلقان.[191]

ناشد الأباطرة البيزنطيون الغرب للمساعدة، لكن البابا لم يفكر إلا في المساعدة مقابل توحيد الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية مع كرسي روما. وفقًا للمؤرخ ستيفين رونسيمان كان يُنظر دائمًا في وحدة الكنيسة وأحيانًا أُنجزت بمرسوم إمبراطوري، لكن المواطنين الأرثوذكس ورجال الدين استاؤوا بشدة من سلطة روما والطقوس اللاتينية.[192] وصلت بعض القوات الغربية لدعم المدافعين عن القسطنطينية، لكن معظم الحكام الغربيين المنهمكين بشؤونهم الخاصة لم يفعلوا شيئًا عندما انتزع العثمانيون الأراضي البيزنطية المتبقية.[193]

حصار القسطنطينية عام 1453، مصور في منمنمة فرنسية من القرن الخامس عشر.

كانت القسطنطينية في هذه المرحلة مكتظة بالسكان ومهدمة. لقد ضَعُف سكان المدينة بشدة لدرجة أنها أصبحت أكثر بقليل من مجموعة قرى تفصلها حقول. في 2 أبريل 1453 حاصر جيش السلطان محمد المكون من 80,000 رجل وأعداد كبيرة من غير النظاميين المدينة.[194] مع أن القوات المسيحية التي كان عددها كبيرًا (حوالي 7000 رجل، 2000 منهم من الأجانب) استمرّت تدافع عن المدينة بيأس حتى النهاية،[193] سقطت القسطنطينية أخيرًا في يد العثمانيين بعد حصار دام شهرين في 29 مايو 1453. وشوهد آخر إمبراطور بيزنطي؛ قسطنطين الحادي عشر وهو يلقي زيَّه الإمبراطوري ويذهب بنفسه للقتال بيده بعد أن استولى العثمانيون على أسوار المدينة.[195]

تذكر روايات مؤرخين مسلمين عاصروا الحدث -مثل المؤرخ عاشق باشا وآق شمس الدين وطورسون بك وآخرين- أن محمدًا الفاتح سار إلى كاتدرائيَّة آيا صوفيا حيثُ تجمَّع خلقٌ كثيرٌ من النَّاس فأمَّنهم على حياتهم ومُمتلكاتهم وحُرِّيتهم، وطلب منهم العودة إلى بيوتهم. بعد ذلك توجَّه إلى مذبح الكاتدرائيَّة وأمر برفع الآذان فيها، وأدّى صلاة العصر داخلها إيذانًا بجعلها مسجدًا جامعًا للمُسلمين،[196] على الجانب الآخر يُشير مؤرخون غربيون معاصرون أنه عند دخول القوات العثمانية المدينة فتحاً، واستناداً لتقارير لشهود عيان على الحدث -مثل نقولا باربارو وليونارد من خيوس ودوكاس والمؤرخ مايكل كريتوبولوس وجورج سفرانتز وغيرهم- استباحَ أفراد الجيش العثماني المدينة وقتلوا أعدادًا كبيرة من المسيحيين فيها وسُبي بعضهم كأسرى.[197](3) ويروي عدة مؤرخين لاحقين منهم فيليب مانسيل ومايكل دوكاس وأندرو ويتكروفت وستيفين رنسيمان وكينيث سيتون وغيرهم أنَّ العساكر العُثمانيَّة استباحت المدينة وكنائسها ومن ضمنها آيا صوفيا وقتلت وسبت من لجأ إليها.[198] وقدّر مانسيل عدد القتلى من المدنيين بالآلاف وعدد من استُعبدوا أو هُجّروا بحوالي 30,000.[199] بينما حسب المؤرخ الغربي ديفيد نيكول فإن العثمانيين عاملوا سكان المدينة بأسلوب أفضل من الصليبيين الذين احتلوا المدينة عام 1204 مؤكدًا في الوقت ذاته على أن مجموع من قُتل من الروم لم يتجاوز 4000 فردٍ بالإجمال منذ بدء حصار القسطنطينية وحتى تمام الفتح، ومجموع من أُخذوا كأسرى حوالي 50,000. ويضيف نيكول أنه عند دخول القوات العثمانية إلى كنيسة آيا صوفيا اقتيد الرجال والنساء -ومن ضمنهم أعضاء النخبة البيزنطية- والذين التجؤوا إليها للعبودية أو الفدية، وحُطّمَت التماثيل الدينية باعتبارها «أوثانًا» وأُخذَت المجوهرات المزينة على الأيقونات والملابس الليتورجية كغنائم، وورد أن الصليب الرئيسي في الكنيسة قد غُطّيَ بقبّعة إنكشارية. [200][201]

التداعيات السياسية[عدل]

شرقي البحر الأبيض المتوسط قبل فتح القسطنطينية.

بحلول وقت سقوط القسطنطينية كانت المنطقة الوحيدة المتبقية للإمبراطورية البيزنطية هي ديسبوتية المورة (بيلوبونيز)، التي حكمها إخوة الإمبراطور الأخير، طوماس باليولوج وديمتريوس باليولوج. استمرت الديسبوتية كدولة مستقلة نتيجة دفع جزية سنوية للعثمانيين. وفي ظلّ حكم غير كفء، أدى الفشل في دفع الجزية السنوية والثورة ضد العثمانيين أخيرًا إلى غزو محمد الثاني لديسبوتية المورة في مايو 1460.[202]

بقي عدد قليل من المعاقل لبعض الوقت. رفضت جزيرة مونيمفاسيا الاستسلام وحكمها أولاً قرصان أراغوني لفترة قصيرة. عندما طرده السكان حصلوا على موافقة طوماس لوضع أنفسهم تحت حماية البابا قبل نهاية عام 1460. قاومت شبه جزيرة ماني، الواقعة على الطرف الجنوبي للمورة، في ظل تحالف فضفاض من العشائر المحلية، ثم أصبحت تلك المنطقة تحت حكم البندقية. وكانت سالمينيكو آخر معقل في شمال غرب المورة. كان غرايتاس باليولوج القائد العسكري هناك، حيث تمركز في قلعة سالمينيكو. بينما استسلمت المدينة في النهاية، صمد غرايتاس وحاميته وبعض سكان المدينة في القلعة حتى يوليو 1461، عندما هربوا ووصلوا إلى أرض البندقية.[203]

أصبحت إمبراطورية طرابزون التي انفصلت عن الإمبراطورية البيزنطية قبل أسابيع قليلة من استيلاء الصليبيين على القسطنطينية في عام 1204، آخر دولة من بقايا الإمبراطورية البيزنطية وآخر دولة خلفتها بحكم الأمر الواقع. أثارت جهود الإمبراطور ديفيد لتجنيد القوى الأوروبية في حملة صليبية ضد العثمانيين حربًا بين العثمانيين وطرابزون في صيف عام 1461. بعد حصار دام شهرًا تنازل ديفيد عن مدينة طرابزون في 14 أغسطس 1461. استمرت إمبراطورية طرابزون في شبه جزيرة القرم، وإمارة ثيودورو (جزء من بيراتيا) لمدة 14 عامًا أخرى، وسقطت في أيدي العثمانيين في ديسمبر 1475.

علم الإمبراطورية المتأخرة تحت الحكم الباليولوجي، يحمل رمز صليب باليولوج الرباعي.

ادعى أندرياس باليولوج -ابن أخ آخر إمبراطور قسطنطين الحادي عشر- أنه ورث لقب الإمبراطور البيزنطي. عاش في المورة حتى سقوطها عام 1460، ثم هرب إلى روما حيث عاش تحت حماية الدول البابوية لما تبقى من حياته. نظرًا لأن منصب الإمبراطور لم يكن أبدًا وراثيًا من الناحية الفنية، فإن ادعاء أندرياس كان بلا أساس بموجب القانون البيزنطي. ومع ذلك فقد اختفت الإمبراطورية، واتبعت الدول الغربية عمومًا المبادئ التي أقرتها الكنيسة الرومانية للسيادة الوراثية. سعياً وراء الحياة في الغرب نصب أندرياس نفسه إمبراطورًا للقسطنطينية، وباع حقوق الخلافة لكل من شارل الثامن ملك فرنسا والملكين الكاثوليكيين أي فرديناند وإيزابيلا ملكي أراغون وقشتالة.

توفي قسطنطين الحادي عشر دون أن ينجب وريثًا، ولولا سقوط القسطنطينية لكان خلفه أبناء أخيه الأكبر المتوفى الذين نُقلوا إلى قصر محمد الثاني بعد سقوط القسطنطينية. أصبح الصبي الأكبر -الذي اتخذ اسم مراد باشا الخاص- شخصية مفضلة لمحمد الفاتح وشغل منصب بكلربك (الحاكم العام) في البلقان. أصبح الابن الأصغر -الذي اتخذ اسم مسيح باشا- أدميرال الأسطول العثماني وسنجق بكي (حاكم سنجق) مقاطعة جاليبولي. وخدم في نهاية المطاف مرتين كصدر أعظم تحت حكم نجل الفاتح بايزيد الثاني.[204]

استمر محمد الثاني وخلفاؤه في اعتبار أنفسهم ورثة الإمبراطورية الرومانية حتى زوال الدولة العثمانية في أوائل القرن العشرين بعد الحرب العالمية الأولى. لقد اعتبروا أنهم ببساطة قد غيروا أساسهم الديني كما فعل قسطنطين من قبل، واستمروا في الإشارة إلى سكانهم الرومان الشرقيين المهزومين (المسيحيين الأرثوذكس) باسم الروم. في هذه الأثناء كانت إمارات الدانوب (التي اعتبر حكامها أنفسهم أيضًا ورثة الأباطرة الرومان الشرقيين)[205] قد آوت لاجئين أرثوذكس، بما في ذلك بعض النبلاء البيزنطيين.

عند وفاته ادعى إيفان الثالث -الدوق الأكبر لموسكو- دور الإمبراطور بصفته راعيًا للأرثوذكسية الشرقية. تزوج من أخت أندرياس صوفيا باليولوغينا التي أصبح حفيدها إيفان الرابع أول تسار لروسيا (تسار يعني القيصر، وهو مصطلح يطبقه السلاف تقليديًا على الأباطرة البيزنطيين). أيد خلفاؤهم فكرة أن موسكو كانت الوريث المناسب لروما والقسطنطينية. بقيت فكرة الإمبراطورية الروسية على أنها روما الثالثة المتعاقبة حيةً حتى زوالها مع الثورة الروسية.[206]

محاولات الاستعادة[عدل]

تمثال قسطنطين الحادي عشر آخر إمبراطور بيزنطي، في أثينا.

بعد مرور عامين على سقوط القسطنطينية، اهتمّ كاليستوس الثالث بصفة أساسية بتنظيم أوروبا المسيحية ضد غزو الأتراك. أُلغيَ برنامج بناء واسع النطاق قيد التنفيذ في روما ووُجّهت الأموال نحو بدء حملة صليبية. أُرسلَ السفراء البابويون إلى جميع دول أوروبا لمطالبة الأمراء بالانضمام مرة أخرى في محاولة للتحقق من خطر الغزو التركي. وأُرسل المبشرون إلى إنجلترا وفرنسا وألمانيا والمجر والبرتغال وأراغون للتبشير بالحملة الصليبية ولإقامة صلوات المؤمنين من أجل نجاح الحملة. بأمر من كاليستوس الثالث، دقت الأجراس في منتصف النهار لتذكير المؤمنين بضرورة الصلاة من أجل عافية الصليبيين. كان أمراء أوروبا بطيئين في الاستجابة لنداء البابا، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى الخصومات الوطنية. انتهت حرب المائة عام التي خاضتها إنجلترا وفرنسا للتو في عام 1453. وقد قابلت القوات بقيادة يوحنا هونياد (بالمجرية: Hunyadi János)‏، النقيب العام للمجر، الأتراك وهزمتهم في بلغراد (22 يوليو 1456). بعد فترة وجيزة من انتصاره، توفي هونياد نفسه من الحمى.[207]

كانت الخطة اليونانية أو المشروع اليوناني (بالروسية: Греческий проект)، حلاً مبكرًا للمسألة الشرقية، قدمته كاترين العظيمة في أوائل ثمانينيات القرن الثامن عشر. تصور المشروع تقسيم الدولة العثمانية بين الإمبراطورية الروسية وملكية هابسبورغ متبوعًا باستعادة الإمبراطورية البيزنطية المتمركزة في القسطنطينية.[208][209] كان الأمير بوتيمكين هو العقل المدبر للخطة اليونانية، وأعطى أسماءً يونانية للمدن التي تأسست حديثًا في نوفوروسيا (على سبيل المثال، أوديسا وخيرسون). سُلّطَ الضوء على الرمزية البيزنطية في الكنائس الجديدة مثل كاتدرائية خيرسون. رُتّبَ لقاء آخر بين الملوك الروس والنمساويين جزءًا من رحلة كاترين لشبه جزيرة القرم عام 1787. أعلن كلا البلدين الحرب على الدولة العثمانية في وقت لاحق من ذلك العام. انتهت الاتفاقية فعليً بسبب وفاة جوزيف في عام 1790، ومعاهدة جاسي ومعاهدة زيشتوف، التي حصلت فيها النمسا على القليل.[210]

نظام الحكم والإدارة[عدل]

الحكومة والبيروقراطية[عدل]

كان الإمبراطور هو الحاكم الوحيد والمطلق في الدولة البيزنطية، وكان يُنظر إلى سلطته على أنها ذات أصل إلهي.[211] منذ عهد جستنيان الأول (حكم 527-565) اعتُبرَ الإمبراطور «القانون الحي».[212] لم يكن مجلس الشيوخ البيزنطي يتمتع بسلطة سياسية وتشريعية حقيقية وظل مجلسًا رمزيًا وأعضاؤه فخريون. بحلول نهاية القرن الثامن تشكلت إدارة مدنية ترتكز على البلاط الإمبراطوري كجزء من توطيد واسع النطاق للسلطة في العاصمة.[213] يُعدّ إنشاء البنود الذي بدأ ربما في منتصف القرن السابع أهم إصلاح إداري -حيث مارس قائد يُدعى الإستراتيجوس- الإدارة المدنية والعسكرية في آنٍ واحد.[214]

مع أن مصطلحي «بيزنطي» و«البيزنطية» استُخدما بطريقة مهينة في بعض الأحيان إلا أنه كان لدى البيروقراطية البيزنطية قدرة مميزة على التكيف مع الأوضاع المتغيرة للإمبراطورية. أعطى النظام المفصل للألقاب والأسبقيات هيبةً للبلاط الإمبراطوري. رُتّب المسؤولون ترتيبًا صارمًا حول الإمبراطور واعتمدوا على الإرادة الإمبراطورية في رتبهم. كانت هناك أيضًا وظائف إدارية فعلية، ولكن كانت السلطة تُسند للأفراد بدلاً من المكاتب.[215]

في القرنين الثامن والتاسع شكلت الخدمة المدنية أوضح طريق للوصول إلى الطبقة الأرستقراطية، ولكن ابتداءً من القرن التاسع كانت الأرستقراطية المدنية تنافسها طبقة أرستقراطية من النبلاء. وفقًا لبعض الدراسات عن الحكومة البيزنطية هيمنت سياسات القرن الحادي عشر على المنافسة بين الطبقة الأرستقراطية المدنية والعسكرية. خلال هذه الفترة أجرى ألكسيوس الأول (حكم 1081-1118) إصلاحات إدارية مهمة، بما في ذلك إنشاء مكاتب ومراتب جديدة.[216]

الإمبراطور وحاشيته[عدل]

ألكسيوس الأول كومنينوس.

ارتكزت سلطة الإمبراطور إلى مفهوم ملكي ناتج عن إصلاحات دقلديانوس وقسطنطين العظيم، وأعطى الأخير شرعيةً دينيةً للمنصب استمرت على مر السنين، فكان يُنظر إلى الإمبراطور على أنه مختار من الله. خلال القرون الأولى للإمبراطورية حمل الإمبراطور لقب الإمبراطور القيصر قبل أن يستبدل به هرقل المصطلح اليونانيّ الأصل باسيليوس أو فسيلفس والذي أخذ ينتشر بين العامّة بدلًا من «إمبراطور».[217] وكما كان عليه الحال في الإمبراطورية الرومانية احتاجت السلالة الحاكمة إلى شرعية قوية بناءً على موافقة الشعب ومجلس الشيوخ والجيش -على الأقل من الناحية النظرية- حتى عهد السلالة الإيساورية.[218] وهذا ما يفسر العدد الكبير نسبيًا من المؤامرات والانقلابات، بما في ذلك ما بعد ترسيخ شرعية الأسرة الحاكمة في القرن الثامن. لم يكن يكفي أن يكون الشخص ابنًا للإمبراطور حتى يضمن شرعية وصوله للحكم،[219][220] لذا فإن الأباطرة غالبًا ما اهتموّا بتتويج أبنائهم خلال حياتهم، وكانت فترات الوصاية على العرش متوترةً بصفةٍ خاصّةٍ مثل فترة حكم ألكسيوس الثاني كومنينوس التي انتهت بسقوط السلالة الكومنينية.[221] كانت سلطة الإمبراطور تُصبح موضعَ تساؤل في حالة الهزائم أو السياسات الدينية المخالفة للأرثوذكسية أو حتى في أي أزمة خطيرة للغاية. كان يجب على الإمبراطور ألّا يبتعد أبدًا عن الحفاظ على الصالح العام، وبمجرد أن يتجاهل ذلك لمصلحته الشخصية يصبح «طاغية» تجدر الإطاحة به على حد تعبير جان كلود تشيني.[219] ومن ثم يصبح أي استيلاءٍ ناجحٍ على السلطة علامةً على أن الله أحلّ بركته على الإمبراطور الجديد. وضعَ هذا الحق في التمرد حدودًا رئيسيةً للسلطة البيزنطية.[222] ومع ذلك فإن بعض الأحداث أشارت إلى تطور الأوضاع لصالح السلالة الحاكمة، مثل صلابة السلالة المقدونية ومدى الأزمة الداخلية التي أعقبت زوالها في القرن الحادي عشر، واستمرار سلطة الباليولوج بين عامي 1258 و1453.[223]

كان الحكم في الإمبراطورية قريبًا من الحكم المطلق بسبب امتلاك الإمبراطور سلطات واسعة، وقد منحته شرعيته «الإلهية» سلطةً قويةً على كل النواحي الزمنية والروحية، فكان من الطبيعي أن يكون في تنافس مع البابا أو مع بطريرك القسطنطينية. كان الإمبراطور هو «القانون الحي»، فهو يحدد الحق، ومراسيمه لها قوة القانون. وبسبب منصبه فهو أيضًا فوق القانون.[224] ولكنه في الواقع توافق مع عدد معين من المبادئ، وفي مقدمتها تعاليم الكنيسة.[222] أصبحت ممارسة تتويج البطريرك للأباطرة خطوةً ضروريةً في عملية إضفاء الشرعية على الإمبراطور الجديد، فهي تشير إلى عقيدته، وهي ضرورة لأي مطالبة بالعرش.[225] كان الإمبراطور أيضًا القاضي الأعلى، وتصدر جميع قرارات المحكمة باسمه وله سلطة كاملة لمراجعة الأحكام.[226]

خلال القرون الأولى للإمبراطورية وحتى القرن الحادي عشر كان من النادر جدًا أن يتزوج الإمبراطور أو أحد أفراد العائلة الإمبراطورية من أجانب. بل على عكس ذلك كان الزواج يجري بطريقة منهجية تقريبًا بين أعضاء الطبقة الأرستقراطية البيزنطية العليا من أجل كسب تأييد عشائر النبلاء الرئيسية. لم يحدث أي زواج بين أفراد العائلة الإمبراطورية والأجانب إلا في ظروف استثنائية لتأمين تحالف شعب ما في حالة الضرورة القصوى. عُمّمت هذه الحقيقة منذ عهد باسيل الثاني.[227] شاركت الإمبراطورات في الاحتفالات الإمبراطورية ولكن لم تكن لهن سيطرة مباشرة على السلطة، إلا بواسطة تأثيرهن (العميق أحيانًا) على أزواجهن، مثل ثيودورا زوجة جستنيان الأول. أقامَ الإمبراطور عمومًا في قصر القسطنطينية الكبير الذي بناه قسطنطين العظيم وقد توسع القصر باستمرار ليشكل بناءً واسعًا غير متجانس. كان موقعه بالقرب من آيا صوفيا والهيبودروم حيث تواصل الإمبراطور مباشرةً مع الناس. كان مدخل القصر بوابةً ضخمةً برونزيّة، ومن بين أجزاء القصر المهمة كانت قاعة ماجنورا التي استُخدمت لاستقبال السفراء الأجانب بالإضافة لكونها مقر مجلس الشيوخ، ومركزًا تعليميًا هامًا، وقصر دافني، وغرفة الطعام الخاصة تريكلينيوم، والقصر المقدس حيث يقيم الإمبراطور، وقاعة كريسوتريكلينوس الرئيسية المخصصة للاستقبال والاحتفالات، والغرفة التي تلد فيها الإمبراطورات والتي جاء منها لقب «الولادة في الأرجوانية» الذي أُعطيَ للورثة الشرعيين.[228]

كان الإمبراطور رمزًا قويًا للسلطة واتّضح ذلك من المنافسة الشديدة والعنيفة على هذا المنصب. كان البلاط الإمبراطوري تجسيدًا لمبدأ أن الإمبراطور ممثل للّه على الأرض. وكان من الضروري التذكير دائمًا بالطابع الإلهي لقوة الإمبراطور. نُظّمت المراسم والاحتفالات الإمبراطورية بدقّة وأُحيطت السلطة الإمبراطورية بغموض يعزز جلالتها وشرعيتها. قال قسطنطين السابع في كتابه المراسيم إن حياة البلاط الإمبراطوري تعكس «الحركة المتناغمة التي يمنحها الخالق لهذا الكون بأكمله».[229][230] نادرًا ما ظهرَ الإمبراطور نفسه، وعندما يظهر يكون محاطًا بجوٍّ من الفخامة والأبّهة. عندما يعلن قراراته تأخذ المراسيم اسم "silentia" الذي يعني «الصمت»، ولم يكن الإمبراطور يتحدث مباشرةً وإنما بواسطة الإشارات أو عبر مترجمين. كان يجب على من يقابل الإمبراطور أن يؤدي طقوسًا معينة فارسيّة الأصل تتضمن السجود عند قدميه. وكان اللون الأرجواني الذي يرتديه الإمبراطور مقدسًا،[231] وكانت هناك عبادة حقيقية للقوة الممنوحة لشخص الإمبراطور.[230]

الإدارة المركزية[عدل]

بقايا مجمع قصر بلاشيرناي؛ وهو المثال الوحيد السليم نسبيًا لعمارة القصر البيزنطي في القسطنطينية.

اعتمد الإمبراطور على إدارة توصف أحيانًا بأنها معقّدة من أجل ممارسة الحكم، لكنها مع ذلك كانت فعالة وقادرة على التكيف مع متغيّرات العالم. على عكس الدول القروسطيّة في أوروبا الغربية، التي تميزت غالبًا بإداراتها الصغيرة وأنظمتها اللامركزية القوية، استندت الإمبراطورية البيزنطية إلى مركزية قوية للسلطة، تضمنُها إدارة منظمة للغاية.[232] اعتمد البيزنطيون هيكلًا إداريًا منظمًا حرصًا على ضمان تنظيم شؤون الدولة بأكبر قدر ممكن من الدقة، وجعل ذلك النظامَ البيزنطيَّ أحد أكثر الأنظمة الإدارية كفاءةً في عصره.[232]

في القرون الأولى لانقسام الإمبراطورية الرومانية إلى كيانين أفسح دوام مؤسساتها المجال تدريجياً لظهور نموذج بيزنطي أكثر خصوصية. تبنّت الإمبراطورية البيزنطية بدايةً المبادئ الإدارية الرومانية الرئيسية مثل الفصل بين الإدارات المدنية والعسكرية. كانت الولايات الإمبراطورية هي التقسيمات المدنية الكُبرى في الإمبراطورية، واحتلّ القائد البرايتوري مكانةً أساسيةً في حكومات الأباطرة الأوائل. وكان يعمل إلى جانبه رئيس المكاتب الذي تولى تحديدًا مسؤولية الوزارات بالإضافة إلى قيادة أفواج العاصمة.[233]

تميزت الإدارة المركزية بتعقيدها وبتعدد المكاتب والوظائف وبعدم وجود تنظيم منطقي حقيقي في بعض الأحيان، ومن الأمثلة على ذلك الازدواجية بين حاكم الولاية ورئيس المكاتب، بالإضافة للمجال المالي الذي جسّد هذه المنظومة المتشابكة حيث كان على محافظ الولاية -الذي يديرُ أكبرَ جزءٍ من الأموال العامة- أن يتعامل مع كونت المخازن المقدسة [الإنجليزية] المسؤول عن جوانب مالية معينة مثل فرض الضرائب والرسوم الجمركية وإدارة المناجم والمصانع، ومع كونت المال الخاص [الإنجليزية] المسؤول عن إدارة ممتلكات الإمبراطور المنفصلة عن الممتلكات العامة. اختفت كل هذه الوظائف في مطلع القرن السابع لكن دون توحيد الإدارة المالية تحت سلطة واحدة حيث أصبح الساكيلاريوس مسؤولًا عن إدارة ممتلكات الإمبراطور، واللغثيط تو جينيكو مسؤولًا عن إدارة الضرائب.[234] استمرّ لاحقًا التمييز بين الممتلكات العامة والممتلكات الخاصة بالإمبراطور، وكان أي شكل من أشكال جمع المناصب وسيلةً لضمان السيطرة على المكاتب الإدارية المختلفة فيما بينها.[235]

على نحو واسع أصبحت الإدارة المركزية تعتمد على الوزارات التي أخذت اسم سِكريتا (sekreta) منذ القرن السابع، وعُرف رئيس كل وزارة باللغثيط. كان من أشهر المناصب الوزارية اللغثيط تو درومو،[236] وهو مسؤول عن مكتب البريد والبعثات الدبلوماسية والشؤون الخارجية، واللغثيط تو جينيكو المسؤول عن الشؤون المالية والضرائب والإيرادات، وكذلك اللغثيط تو سترايتيريكو المسؤول عن الجيش البيزنطي.[237][238] كان الرئيس الفعلي للإدارة المركزية هو أحد كبار مستشاري الإمبراطور ويحمل لقب بروتاسيكريتيس حيث كان يحتل مكانًا رفيعًا في البيروقراطية البيزنطية وهو المشرف على الوزارات. لكن بمرور الزمن تغير ذلك المنصب وأصبح مستشار آخر يحمل لقب ميزون بمثابة رئيس للوزراء ومساعد رئيسي للإمبراطور.[239][240] من بين المسؤولين الكبار أيضًا كان حارس المحبرة كانيكليوس، حيث شغل موقعًا مهمًا بصفته صاحب الوصاية على الحبر الإمبراطوري الذي استُخدمَ في صياغة المراسيم الإمبراطورية.[227]

الإدارة الإقليمية[عدل]

البنود البيزنطية في وقت نشوئها حوالي العام 750.

شهدت الإمبراطورية البيزنطية تطورًا كبيرًا في نطاقها الإقليمي على مر القرون. في قرونها الأولى احتفظت بالولايات والمقاطعات والأبرشيات التي ورثتها من الإمبراطورية الرومانية. فُصلت السلطات المدنية عن العسكرية في الأقاليم وفق النظام الإداري الذي أسسه قسطنطين العظيم وديوكلتيانوس. أجرى جستينيان الأول (حكم 527-565) إصلاحًا جذريًا على ذلك النظام وألغى الفصل الصارم بين السلطات المدنية والعسكرية. خضعت الأراضي التي فُتحت حديثًا في شمال إفريقيا وإيطاليا لسلطة «إكسارخوس» وهو حاكم يتمتع بصلاحيات مدنية وعسكرية.[241] ابتداءً من عهد الإمبراطور هرقل (حكم 610-641) عدّل الأباطرة تدريجياً النظام الإقليمي وأنشؤوا البنود التي أصبحت الوحدات الإدارية الرئيسية. تشكلت البنود بعد انسحاب البيزنطيين إلى الأناضول إثرَ الفتوحات الإسلامية، واستند تشكيلها إلى معسكرات الجيوش الميدانية البيزنطية وأخذت أسماءها من وحدات تلك الجيوش مثل أوبوسكيون. كان القائد العسكري لكل بند يُعيّن مباشرةً من الإمبراطور، ويمارس صلاحيات مدنية وعسكرية بدون أي فصل.[242][243][228] أصبحت البنود سريعًا أعمدة المقاومة البيزنطية ضد الغزوات والغارات التي واجهتها الإمبراطورية، فكان يُمكن حشد الجيوش الإقليمية في أي وقت للدفاع عن الإمبراطورية ضد المهاجمين.[244]

أُنشئت هذه الهيكلية وتطورت بمرور الزمن. لقد قُسّمت البنود إلى وحدات أصغر لمنعها من أن تصبح مركزًا للثورات المحلية التي قادها حكام أقوياء للغاية. وبالإضافة لذلك فقدت جيوش المقاطعات فعاليتها مع تراجع الاعتماد على الجنود الفلاحين وعودة الجيوش الميدانية من أجل حماية الحدود التي تعرضت للهجوم باستمرار. تجسّد إضعاف الدور العسكري للبنود عبر استبدال القادة العسكريين «الإستراتيجوس» بحُكّام مدنيين وقضائيين. ظهرت عدة تقسيمات إقليمية أخرى مثل كتبانة إيطاليا والدوقيات، جمعت عدة بنود وأكدت الطابع الاستراتيجي للمناطق الحدودية.[245][246]

البنود البيزنطية حوالي العام 950. يُلاحظ أن البنود الأولى قد قُسمت إلى أُخرى أصغر، ونشأت بنود جديدة (كولونيا، لوكاندس) مع تقدم البيزنطيين في الشرق.

وجهت أزمات القرن الحادي عشر ضربة قاسية للتنظيم الإقليمي، فقد أدى فقدان إيطاليا والأناضول إلى سقوط عدة بنود. ومع ذلك فلم تختفِ تمامًا، بل أُعيد إنشاء بعضها عند استعادتها -غالبًا- على شكل دوقيات.[227] من ناحية أخرى تميّز عصر آل كومنين (1057-1185) بتقوية الحكم الذاتي الإقليمي الذي اتخذ في بعض الأحيان منعطفات انفصالية، مما يدل على فقدان سلطة الإمبراطورية على المناطق المحيطية. وتحت حكم السلالة الأنجيلوسية (1185-1204) حصلت بعض المناطق على استقلالها مثل قبرص وبلغاريا وطرابزون.[247]

تميزت القرون الأخيرة من الإمبراطورية بتدهور إقليمي تدريجي حيث اختفت البنود واستُبدل بها وحدات إدارية أُخرى، فكان يُدير بعض المدن ومحيطها حكام محليون عُرف واحدهم باسم كيفالي [الإنجليزية][248] أما المنطقة الإدارية الأوسع فعُهدَ بها إلى أفراد مستبدّين من العائلة الإمبراطورية. أدى نظام برونويا -وهو نظام مالي يمنح بموجبه الإمبراطور أرضاً لأحد الأفراد حتى يديرها ويجني منها أرباحه الخاصة- إضافةً اللامركزية المتزايدة للسلطة ووجود قادة محليين ذوي نفوذ كبير إلى فقدان السلطة المركزية للإمبراطورية.[249] أدى ذلك النظام -الذي نُظر إليه على أنه إقطاعي- إلى نشوء مناطق متطورة ومستقلة عن القسطنطينية، وهكذا بقيت ديسبوتية المورة -وهي مقاطعة بيزنطية سابقة- موجودةً لبضع سنوات بعدما زالت الإمبراطورية فعليًا عام 1453. لكن تعارض بعض المؤلفات الحديثة تفسير الانحدار العام للإمبراطورية بنشوء النظام الإقطاعي، وتشير إلى ديمومة السلطة المركزية بما في ذلك ضمن المقاطعات ذات الحكم ذاتي.[250]

الدبلوماسية[عدل]

سفارة البطريرك يوحنا السابع القسطنطيني عام 829 بين الإمبراطور ثيوفيلو